الثلاثاء ٣٠ أبريل ٢٠٢٤

تجاذبات الديني والسياسي

السبت 24 يونيو 14:06
24972


بوشعيب ضاري، طالب باحث دكتوراه للفلسفة بكلية بن مسيك الدار البيضاء

1-تعريف الدين:

يعد الدين ظاهرة إنسانية بامتياز خصت الإنسان دون غيره وارتبطت به وارتبط بها، فكانت حاجة الأنسان إلى الآلهة منذ ظهور الإنسان الأول فكانت القبائل والعشائر تمارس طقوسا وتقدم القرابين لإرضاء الآلهة كزلفة تتقرب بها إليهم وكذلك لتحقيق ما استعصى تحقيقه. وكانت الحاجة إلى الدين كالحاجة إلى الطعام بل قد تكون الحاجة إليه أشد إلحاحا من الطعان نفسه ولا أذل على ذلك الزهاد والبوذيون الذين يزهدون فيه ولا يتناولون إلا النزر اليسير الذي يجعلهم يبقون على قيد الحياة.
وكثيرا ما ارتبط الدين بالروح أي بمنطقة هي غير العقل وغير الجسد وهذا هو الشائع ولو أن الأبحاث العلمية تعتبر كل شيء في منطقة من مناطق الدماغ. لكن ذاك الخصاص وذاك العوز وذاك النقص واللامعنى للوجود وأسئلته الميتافيزيقية المؤرقة استدعت حضوره في حياتنا وبات لزاما علينا الدخول في أنساقه واتباع مذاهبه، فتجد الطفل يولد محاطا بدين ليتبعه عند رشده مرسوم على خطاه حتى مشيبه.

2-الخطاب الديني:

شكّل الخطاب الديني حقلا ومجالا خصبا لكل المُقابسات والتجاذبات عبر التاريخ، وشكلت أرضية الدين ساحة معركة وحرب تنشٌب وبنشوبها تتفتَّقٌ جبهات من التشتت والتمزق والانقسامات، وعوض أن يكون بحسب زعمه المنشود والذي هو مٌتمترس في لملمة الشمل وتوحيد الأقطاب والأقطار وتجاوز الإثنية والطائفية والعرقية صار هو يفرق ويقسم ويفككك. فكثيرا ما ساد الاعتقاد أن الدين يوحد ويصهر الفوارق بل درجة أنه يسعى إلى تآخي الأفراد المتدينين، فالزعم أن رابطة الدين عروتها أوثق وأمتن ، لكن في حقيقة الأمر قد يحدث العكس أي عكس ما يتصوره المرء ويحلم به ويتمناه، فنجد الشروخ والتفاوتات تطرأ بسبب الدين، فيتم التقسيم بين ديانة وأخرى، فتتنامى ديانة على أنقاض الأخرى وتُبْتَنَى على انهياراتها، وتُقام على عيوبها، وقد تجد في نفس الديانة انشقاقات بسبب اختلاف التوجهات والرؤى التي تتضارب بتعلة خلفيات يحملها زعماء الأحزاب الدينية، فتجد السنة تكيل الكيل من كيد للشيعة، وتجد الشيعة تحمل نفس الشعور، بل في الطائفة نفسها قد تجد الانقسام والتشظي كانشطار الذرة إلى نيوترونات وانشطار هذه إلى فوتونات مثل السنة التي تنشطر إلى سلفية ومعتدلة، والأمر يسري على المسيحية بين الكاثوليك والبروتستانت.
ولما انتصر العقل السني كتب التاريخ بيده المنتصرة فاختطت ما واءم أدلوجتها ومحت ما صار عكس مطامحها ومراميها، وزعم أن فرقته هي الفرقة الناجية وتسعة وستون أخرى الباقية كلها في النار، فأصحابها هم وحدهم من يمتلكون الحقيقة ودونهم في ضلالة وفسوق. وصار يحتكم بأمره ويعتد بمنهجه ومن سار في غير خطاه خرج عن النهج القويم، فامتلك هذه السلطة والسلطة بادعائه امتلاك الحقيقة، لكن أوليست الحقيقة متعددة ومتبدلة وتتمظهر في كل مرة في فينومينولوجيات متعددة لأن ادراكات وعينا وحدوسنا تتبدل هي أيضا مع الزمن؟
قام هذا العقل المنتصر بنعت المنشقين عنه بنعوت ووسوم من قبيل الخوارج والمارقين عن الملة والمبتدعين، فانبثقت فرق اتُهِمت بالزندقة والمروق على رأسها المعتزلة، ولئن كان العقل المعتزلي يدعو إلى التحرر من سلطة النص الديني وجعله خاضعا لسلطة العقل فإن هذا العقل أيضا هو عقل لا يمكن توصيفه بالعقل الكانطي الذي يعتمد في منهجه على ملكة النقد لأنه لا يخرج عن دائرة الدين فهو لا يتجاوز مدارتها، إنه يحلق في فضائها وحيزها، ويفكر بفكرها حتى أنه يستخدم ألفاظها ويقيس بمعاييرها، وبالتالي فهو ليس عقلا محضا وخالصا لأنه مرتهِن بالديني ولا يتجاوز حدوده وإطاراتهِ.

3-سطوة التأويل واللعب بالكلمة والتأثير في المعنى:


شهدت واقعة السقيفة منزلقا نحو هذا الخلط في استظهار المعنى وذلك بخصوص من يؤول الحكم إليه، وما التطاحنات والصراعات إلا طفو على سطح وعَوَدٌ على بدء، حيث عَوَد السياسي وارتكاسه على الديني، فكان لردم هوة هذا الصدع ضرورة استعجالية للتأويل لدرء ما تبدى ولتسويغ ما استعسر وتعصى، فأُوِّلت آيات من مثل، وأمركم شورى بينكم إلى الديموقراطية التي هي الشورى، وآية، وأولي الأمر منكم إلى النخبة السياسية، وآية آل البيت أولتها طائفة الشيعة إلى أهل البيت أي هم من لهم أحقية الحكم حيث يكون من سبط آل رسول الله وعائلته وأقربائه، لكن السنة كان لها رأي آخر لتأسيس المشروع السياسي، فقالت أن آل البيت المقصود بهم أهل الله و خاصته من أصحاب التقوى والورع ولا تخص عشيرة الرسول بل صحابته، فقامت قائمة ولم تقعد، اندلعت معها شرارة الفتنة ولم تُطفَأ، فكان ما كان من واهية ليس لها ناهية، فنشبت الحروب باسم الدين وتحت غطائه ورايته وتم إخفاء المشروع السياسي ومٌداراته وراء ظهرها،. هنا وهنا حيث يختلط الديني بالسياسي وينحل ويتحلل فيه فيصبح روحه وجوهره ولسانه الذي ينطق به، بل حتى يده التي يبطش بها، وما قتل الخلفاء إلا علامة على ذلك، ولا الحروب الدينية إلا شاهد ومعلمة أركيولوجية على هذا الخلط والجَلْط والحلول، فما أن تقتحم تخوم الديني وحقوله حتى تجد نفسك ما زلت في وعلى أرضية السياسي.

يقول عبد الله القصيمي: “لقد سقط عصر الآلهة التي لا تملك إلا لتعاليم المتوحشة، ليجيء عصر الحاكم والمذهبية، والزعامة والدولة الشاملة التي تملك كل أسباب القتل والإذلال، والإغواء والحشد”.
وقد كانت حادثة الجمل شاهد على تلبس الدين بالسياسة، عندما احتكم للقرآن الذي وضع فوق أسنة الرماح فيما سمي بمبدأ الحاكمية، فكانت لعلي بن أبي طالب قولة تنم عن تفطنه وشدة درايته بالخطاب الديني وماله من تأويل وتحويل وتحوير وصيرورات وأداليج، فكانت قولته أشد وقعا من السيوف والتي هي القرآن بين دفتي مصحف لا ينطق ولكن تنطقه أفواه الرجال.

4-الحلم نحو إقامة دولة دينية:


لقد كانت الدولة الإسلامية هي الطموح والمبتغى للعقل الإسلامي الذي يرى في عودة الخلافة والفتوحات المشروع الإسلامي الأمثل والأليق كأحسن الأنظمة السياسية، ولعل العقل العربي البسيط ما إن تتناول معه الحديث عن الدولة حتى يجذب الهواء من رئته بقوة تحسرا على انصرام الزمن الجميل حسب توصيفهم له، ولعل دولة داعش هي تطبيق للدولة الدينية واستدعاء لعودة أمجاد الخلافة المزعومة، ولو أمكن لهؤلاء المتنطعين الذين يحلمون بعودة الدولة الدينية أن يعيشوا في دولة داعش لتمنوا الفرار ولتبدد ذاك الحلم الغاشم والموهوم، سوف يشعرون شيئا فشيئا بأن تلك الشعارات الرنانة ما هي إلا أوهام وتلك الأيام الخوالي هي مجرد أضغاث أحلام. سوف يصدمون بواقع غير الواقع الذي صٌور لهم فمجال الحرية هو ضيق يكاد يكون معدوما والديموقراطية هي مفقودة وغير شاملة تختص نخبة الفقهاء وخاصة الفئة الحاكمة، وسوف ترتبك حساباتهم لما يعلموا أن تأويلات فقهية من قبيل جهاد النكاح كأن تهب امرأة نفسها لعشرات الرجال هي بذلك الفعل تجاهد في سبيل الله، علما أن هذا الفعل إنما هو عمل جنسي شاذ الحيوانات براء منه. ولما طولب الأزهر لوصايته على العقل الإسلامي بتكفير داعش علما أنهم يكفروننا كمسلمين، رفض بكل مكر وخديعة ودهاء. هنا يظهر تلاعب الفقهاء بالدين وتوظيفهم له حسب أهوائهم وحسب مصالحهم، وهذه هي السياسة بكل مكرها وخبثها فيتحول الفقهاء من ممارسة الفتوى الدينية إلى التنظير للسياسة وفي هذا القفز تمرر قرارات سياسية على أساس أنها دينية وفي هذا الخلط والتقافز ضرر على الأمة وعلى الدين نفسه. إن الأزهر يستفرد بتأويل النص الديني وفي هذا خطر على العقل الإسلامي المغرر به والذي يعطونه ما يوائم مصالحهم. وما رفض تكفير داعش التي تكفرونا إلا دليل على هذا الخطر القادم من جهة هذه الجهة.

5-محمد أركون والدعوة إلى الإسلاميات التطبيقية للعودة لجوهر الإسلام السمح والمنفتح:


للخروج من النفق المسدود الذي سَيَّجَهٌ رجال الدين كان الحل في نظر محمد أركون ما أسماه بالإسلاميات التطبيقية التي تروم تطبيق كل العلوم والمناهج على الدين لأنه متأثر بالتأثير التاريخي والإيديولوجي.
لقد كان أركون واعيا وواضحا عندما تحدث على الجهل المؤسس الذي يتجاوز في خطورته وتأثيره الجهل المقدس، لأن الأول يترسخ في عقولنا منذ المهد فيكبر معنا وبالتالي يكبر التخلص منه لأنه تغلغل في لا شعورنا فندافع عنه بكل عفوية. وإن خطورة الفقهاء تنبري عندما يشهرون أسلحة التكفير بل التهديد بالقتل عندما تزعزع أفكارهم المقدسة، ولعل أمثلة كثيرة صارت في هذا المنوال من شاكلة ما وقع للمفكر حامد أبو زيد.
يقول محمد أركون: “كان الفكر الديني ولا يزال مبنيا على مفهوم دين الحق الذي يقدم للناس حقيقة مطلقة ثابتة أزلية متعالية على مختلف أنواع الحقيقة النسبية المتحولة الخاضعة للتاريخية وقوانين الكون والفساد، ثم جاءت الحداثة وألحت على تاريخية الحقيقة. وعلى الرغم من ذلك فإن الميتافيزيقا الكلاسيكية تشبثت بمفهوم الحقيقة المطلقة المتعالية حتى بعد ظهور فلسفة التفكيك للمعنى “.
إن ممارسة السلطة الدينية على الأفراد الذين يتمتعون بثقافة سمعية ولا يقرؤون، وإن منع كتب بدعوى أنها تؤثر على العقيدة هو ترسيخ وتثبيت للجهل المقدس والمؤسس وزيادة في تفريخ حركات إرهابية قتالة لا تمت صلة بالإسلام فهو بريء منها براءة يوسف من دم أخيه.
هل أفرزت لنا المسيحية أو الإسلام أنظمة قابلة للتطبيق والإنزال؟ وهل أنتجت لنا مؤسسات ديموقراطية كالبرلمان والحكومة ومنابر سياسوية فيها يصاغ القرار السياسي ويتكون الرأي السياسي، تقوم بالشأن السياسي، أم أنها ظلت حبيسة الأبراج المتعالية متعلقة بشؤون السماء غاضة البصر عن شؤون الأرض وعن كل ما هو دنيوي profane كونه ليس خاصتها وليس يدخل ضمن مضامينها ومكامنها، وهل استخدمت لفظة السياسة في النصوص الدينية؟ أم أنها كانت وليدة من صنع وابتكارات الحداثة بامتياز.
وهل الدين عندما ناقش فكرة العدل قد تناول العدالة الاجتماعية أم اكتفى بسن الزكاة والصدقات وهل تناول فكرة الأقليات المهمشة وأزال أنظمة العبيد والرق والأقنان؟ أم أن ذلك لم يكن إلا بعد صدور مراسيم قانونية دولية تلغي هذه الظواهر اللاإنسانية؟
كيف استطاع الدين الحلول والتغلغل في اليومي والمعيش والوجود الإنساني الوقعاني؟ كيف استطاع أن يخبرنا بالعالم الأخروي الغير مرئي والغير خاضع لمختبر التجربة والعلوم؟ ومن أين أتى بهذا اليقين والوثوقية والمُطلقية؟
ما الذي يجعلنا نٌقبل على تصديق الروايات والسرديات الدينية تحت إطار آمن ولا تفكر عوض أن تفكر قبل أن تؤمن؟ هنا استطاع محمد أركون أن يغوص في الوحل كما قال على حد توصيفه، فارتأى حلا هو أيضا فيه ما فيه من أشواك مزروعة في أرض فلاة ولا ماء ولا زاد فيها، فكان ما أسماه بالإسلاميات التطبيقية كحل ونبراس للخروج من هذا المأزق ومن هذا الشرود. وما هذه الإسلاميات التطبيقية إلا استدخال الدين ووضعه تحت مجهر العلوم المادية والاجتماعية وحتى النفسية، بل كل النظريات الفلسفية، من تفكيكية دريدا وظاهريات هوسرل والتحليل النفسي لفرويد وأركيولوجية فوكو وجينيالوجية نيتشه.

6-الدعوة إلى الدين هي دعوة إلى السياسة:


باتت الدعوة إلى الدين هي دعوة إلى السياسة، فتحولت هذه الأخيرة إلى غاية يتغياها ويتقصدها فاحتمى بحماها وتقوى بقوتها واعتد بعتادها، وما فقهاء الدولة إلا دليل وحجة على هاته الغاية. وصار رجال الدين هم رجال السياسة ولعل الاكليروس خير برهان على هذا الطرح وذلك مستبين وظاهر في سطوته السياسية إن في تنصيب وعزل وتزكية الساسة، وإن في الإفتاء في أمور سياسية عبر سلك طرق ملتوية في الظاهر تتبدى كأنها دينية. يقول المفكر عبد الإله بلقزيز في هذا الطرح: “ولقد مر على أجزاء من أوروبا حين من الدهر كان البابوات فيها هم الحكام الفعليون أو هم من يعينون الملوك ويعزلونهم، ومن يملكون سلطة الحرمان والغفران والحقيقة في الدنيا والدين. قامت شرعية الدولة الثيوقراطية على ادعاء الحكم باسم الحق الإلهي droit divin، وخاضت الحروب بالدعاء عينه، وكان الخروج على سلطانها مروقا عن الدين وهرطقة وتهديدا لمملكة الله في الأرض”.
وما إن يتكلم الخطيب الديني بخطاب إلا وتجده ينزاح شيئا فشيئا نحو السياسة في خطابه، فيتحول من فقيه إلى رجل سياسي، فيصنع حوله هالة من المريدين يكوِّنون حشودا وجماعات فيها يجتمع ويتشكل الرأي، فيغير شكله من مورفولوجية دينية إلى سياسية، فيمارس بسحر الدين سحر السياسة، ولعل الحركات الإرهابية لهي تأكيد لممارسة السياسة داخل جبة الدين.
ولا غرو في أن الخطاب الديني لا يعني البتة الدين فهو يٌقرأ من عدة أوجه وحمولات بعيدا عن النص الأول الذي يٌشكل هويته كمادة خام لم تتأثر بعدٌ بمشرط التفسير، ولم تتصنع داخل مصنع التأويل الذي هو ترك الحرف كعلامة سيمائية لكن مع إخراج المعنى من جوفه ومع هذا الاستخراج يخرج معه النص من معناه الأول إلى معناه الثاني، ومع هذا الخروج للمعنى الى معنى يقفز من إطاره الديني إلى إطار سياسي.
ومع أن اللغة هي نفس اللغة، إلا أنها مسكونة بالدلالات متلبسة بالسيمائيات، ومندورة للدال والمدلول اللذان هما مكون أساس في رقعة الشطرنج، فمع تغيير أماكن البيدق يتم تبديل المسار والمجرى ككل، هي هي نفس المعادلة تسري بنفس المنطق وبنفس الأحكام.
هنا نستحضر تفكيكية جاك دريدا حيث النص هو غير مكتمل يترك فراغات ومساما، لذا وجب تفكيكه وإعادة تركيبه ليبوح ويفصح عن مكنونه.

7-مقارنة التجربة الدينة بين هايدجر ونيتشه:


إن التجربة الدينية عند هايدجر هي اختبار الإلهي le divin داخل المعيش والواقعي أي الحلول في الوجود الإنساني حيث يغدو الدين ما لمس ولامس وجودنا المحض، المقاربة قد تبدو نيتشوية في بعض جوانبها لكن ليس في تفاصيلها. لقد دعا نيتشه إلى استحضار الجسد بنفس القوة التي حضي بها العقل، والدعوة إلى بعث وانبعاث حقبة اليونان حيث الحياة الصاخبة والجسارة والقوة وطلب الحياة والتشبث بالأرض والواقع لا التعلق بالسماء والأحلام والخيال، فيتحول الجسد إلى عقل ثان يعقل عنفوان الحياة. إن العودة إلى حياة اليونان بأمجادها وعظمتها وبحبها للحياة والحركة والعيش لا باستغراق في الحلم في العيش بعالم مثالي غير حقيقي، فيتجلى المشروع النيتشوي المتمثل في إرادة القوة أي إرادة الحياة وبهذه الإرادة يطفح الديني في شكل ملامس للوجود غير منزاح عنه ولا متواز معه بل متضمن ومٌتزَمِّن فيه وداخله أي ليس خارجا أو متعال عنه. إن الدين عند نيتشه ليس إلا أن تعيش الحياة بقوة وليس بأمثولات الضعف والخنوع التي غرسها فينا رجال الدين عن طريق الزهد والتقشف وانتظار حياة أخرى لنعيش فيها ما حرمنا منه في الأرض، فهذه أخلاق العبيد لا علاقة ولا باع للدين فيها، إن هي إلا ديماغوجيات صنعها الفقهاء ليستفيدوا من هذا التنويم المعناطيسي ومن هذا الرضوخ وهذا الضعف. فإذا كان هايدجر اعتبر الوجود الإنساني في تجلياته الوقعانية بتلبس الديني بالواقعي ولا تكون مسافة ولا فوارق بين الدين والواقع أي الدين هو ما يعكس الواقع لا العالم الأخروي، فإن نيتشه ارتأى في إرادة القوة دينا، وإذا لم يكن الدين يحفظ هذه الإرادة وليست في كينونته وجوهره فهو دين شبيه ومصنوع بألغام فقهية شابها تأويلات غرارة واهية.

8-الحداثة وسؤال الدين :

مع الحداثة ومع تدخل العلوم في الحياة اليومية بدأ خيط الدين يذوب ويتلاشى شيئا فشيئا تلاشت معها مسألة التفكير والغوص في الأخروي eschatologie، المرتبط بالآخرة، سيما وأنها تعتبر الدين حادث داخل سياق تاريخي ماضوي لا يتماشى مع ديناميتها المتحركة والآنية، وفي هذا يقول العلامة محمد الشيخ: “لعله لئن تبدى أن سؤال الحداثة هو سؤال الشأن الآني”.
إن السياسة والقانون والبرلمان والحكومة والانتخاب كلها آليات حداثوية محضة لم يكن للدين باع فيها قيد أنملة، وادعاء غير ذلك مجرد تنطع وزعم، ولي أعناق للآيات وتقويلها ما لم تقله، وحقيقة شبيهة وليس حقيقة أصيلة، فهو إذن لا يعكس الحقيقة كمن ينظر إلى صورته في بركة ماء فتظهر هيأته ضخمة تنافي ماهي عليه في الواقع.
إن التجربة الدينية هي تجربة فردية كما أخبرنا اسبينوزا، ولئن صارت تحتل الفضاء العمومي وتدعو الجماعة هي تتخطى مجالها لتستقر في السياسة وكما قال الجابري: عندما تصلي بمفردك فأنت تمارس العبادة، وعندما تدعو أحدا للصلاة فأنت تمارس السياسة.

الشيء الذي أيقظ مارتن لوثر من سهوته فكان أن أحدث طفرة كبرى ورجة وقلبا كليا لكل المسارات تمثلت في حركات الإصلاح التي انتهجها، وكان ما كان من جملتها نفي الوساطة الكَنَسية وترجمة الكتاب المقدس إلى الألمانية كي يصبح في مُكن كل أحد احتواء كلماته بكل بساطتها دون اللغة التي تستدعي التفاسير اللاهوتية والتي كانت في يد الكهنوت فيوظفها لصالح السياسة التي تعكس مصالحهم الذاتية.
وبالنظر من الزاوية الأخرى وبقلب وجه العملة النقدية تظهر أيضا حاجة السياسة إلى سلطة الدين في السيطرة على العقول وتخدير وشل حركتها عبر تقزيم وتحجيم حريتها، فكان ماركس يعتبر الدين كمخدر يثبط كل الحركات التحررية والثورية التي تقوم بها البروليتاريا كنهضة ضد الرأسمالية الغاشمة، وتبزغ في قولة المحنك السياسي ميكيافلي التي تنم عن التحلي بروح الخديعة والرياء والتظاهر بعكس ما تخفي، فيستعمل الأمير الدين كوسيلة في المراسم الدينية لكسب الطاعة والولاء فتكون الطاعة محشوة بالقداسة.
فكانت حاجة السياسة إلى الدين تضاهي حاجة الدين إلى السياسة، يظهر ذلك جليا عند اندلاع الحروب، فلتجييش الحشود ولشحن العزيمة كان لابد من الاستعانة بالدين لشدة تأثيره على الجموع التي تنصاع لأي كلام يقال إنه صادر من عند الله، فتصنع من العدو كافرا ومحاربته تأتي بمباركة الإله فتتحول رقعة الحرب من دائرة دنيوية هدفها الاستيلاء على الأرض ومغانم الدولة المعادية إلى حرب مقدسة. وقد كانت الغزوات الإسلامية والحروب الصليبية خير مؤشر ودليل على ذلك، فيقف الفقهاء في المنابر متقمصين دور السياسي يلقون الخطبة بكلمات دينية رنانة حماسية ملغومة بتأويلات ماكرة غاشمة قصد تلجيم العقول وتقييدها وبالتالي سهولة توجيهها تلبية بحسب زعمهم لنداء الخالق البارئ وإنما هي في الحقيقة تلبية لنداء الساسة.
هكذا يستعمل السياسي الدين كأداة ووسيلة، وهكذا تٌؤوَل النصوص الدينية وتٌحرَف وإن لم يتم تحريف المبنى أو الكلم فإنما يحرف المعنى مع الحفاظ على استقرار الحرف في مكانه.
لقد خضع الدين لعملية تسييس من طرف الدولة فصار دينا مٌسيَّسا يتأطر بإطارات السياسة ويسير وفق ايديولوجياتها وأحكامها ويدعو للسياسة دعوته للدين نفسه، وصار رجالات الدين والفقهاء يخدمون السياسة ويأمرون بأمرها وينهون بنهيها.
والدولة الحديثة تخرج الدين من جلابيبها، والخروج من الدين لا يعني الخروج من المعتقد الديني ولكن الخروج من عالم فيه الدين يتسيد الدنيوي.
إن الدولة الدينية كانت مشروعا سياسويا بثوب ديني لجماعات الإخوان المسلمين والشيخ حسن البنا، فكانت تكفر الدولة الوطنية وتطالب بعودة ربيع الخلافة المنشود الذي تتغنى به في خطاباتها وتضفي عليه هالة من الطوباوية الغرارة. يقول سيد المفكر سيد القمني: “التساؤل هل كانت الدولة الإسلامية كما هو مشاع دولة ديموقراطية بمعنى الكلمة، أم أن هناك جوانب مظلمة لم يتم سردها في الرواية الإسلامية لتظل شاهدا على الصورة القاتمة والغير مكتملة للتاريخ الإسلامي، من ذلك عهد الخلافة سيما خلافة عثمان الذي آثر قريش بشكل مفرط وعلى رأسهم بنو أمية على حساب باقي الرعية حيث كانوا يتمتعون بالمزايا والعطايا، وربما كان ذلك هو السبب الذي عجل بقتله”.
لقد حكم اوجست كونت على الدين بالموت والأفول في ثلاثيته المُؤرِّخة لمراحل تاريخية الإنسان، حيث الأولى تُستفتح بولادة الدين والثانية بانبعاث الميتافيزيقا والثالثة تُختم بسيادة العلم.
لكن إزاء هذا الموت والأفول هناك دعوة لبعثه وانبعاثه من جديد، فباتت الدعة إلى الدين لكن أي دين، إنه دين من نوع آخر مغاير تماما لما عليه الدين الأول، إنه دين من دون معجزات وخوارق حسب اسبينوزا، من دون وساطة tutelle religieuse حسب مارتن لوثر، وبدون سر حسب فولتير،
إنه دين طبيعي يكتفي بذاته ولا يدعو الآخر إلى اعتناقه.

المراجع باللغة العربية:
-سيد قمني، رب الزمان الكتاب وملف القضية، مؤسسة هنداوي سي آي سي، المملكة المتحدة، 2019.
-عاشق لعار التاريخ، عبد الله القصيمي، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، كولونيا، ألمانيا،1999.
-محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة وتعليق هاشم وصالح، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2001.
-نبيل فازيو، الإسلاميات التطبيقية وهاجس التنوير مدخل إلى مشروع محمد أركون، منتدى المعارف، الطبيعة الأولى، بيروت، 2017.
-محمد الشيخ، فلسفة الحداثة في فكر هيجل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2008.
-عبد الإله بلقزيز، الدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي، منتدى المعارف، بيروت، الطبعة الأولى، 2015.

Références :
-Marcel Gauchet, La religion dans la démocratie parcours de laïcité, Edition Gallimard,1998.
-Kant, Critique de la faculté de juger, Traduction par Alain Renaut, GF Flammarion,2015.
-Nietzsche Par Gilles Deleuze, 1 er Edition, Presse universitaire de France, Paris ,1965.

أضف تعليقك

المزيد من مقالات

السبت ٢٨ مايو ٢٠٢٢ - ٠٣:٤٩

معرض الكتاب لا يهمني

الأربعاء ٠٨ يونيو ٢٠٢٢ - ٠٩:٤٤

وسائل الإعلام و استعمار العقول

الخميس ٣١ مارس ٢٠٢٢ - ٠٣:٤٢

الرياضة… قطاع في غرفة الانتظار !

السبت ٢٣ أبريل ٢٠٢٢ - ٠٣:٢٢

هل نكتفي فقط بثورة ” أخلاقية ” افتراضية !