على إثر تواصل جرى فيما بيني والاخ رشيد وزوجته خديجة البودادي وضيفيه الارجنتينيين اللذين حضرا في إطار دعمهما العلمي والحقوقي لقضية المختفين قسريا ، بمناسبة عيد ميلاد المختطف الحسين المنوزي ، وإثر تواصلي مع فاطمة ونجيب ( وكلهم ممنوعون من السفر والعودة إلى ديارهم خارج الوطن بسبب حصار وحجر " كوفيد 19 " . ) ، أوحى لي نجيب ابن عمي الحاج علي بأغلب محتوى هذه الحلقة . فقد كان من أبرز زواري في السجن ، أفراد عائلتي ( وطبعا أسرتي ) ، ومن أعظمهم عمي الحاج علي الذي كان يضخ في شراييني وقود الصمود وزيت المقاومة ، فحديثه كله حكم وعبر ، وكلما حضر إلا و يسألني ، (بعد السؤال التقليدي ، هل تنام وتأكل جيدا ؟ ) ، هل أقرأ ؟ . وكان يذكرني بأيام اختطافه واحتجازه بأقبية الكور بيس بمطار أنفا الدارالبيضاء ، ولم يكن أحد يعلم بمكانه سوى المخابرات والحراس ، وكذا يحكي عن التعذيب الذي كان يتعرض له ، قبل أن يقدموهم للوكيل العام الدولة ، ويحال على غرفة التحقيق ، ليتم إيداعهم في السجن المدني غبيلة . سؤاله كان يضمر حكمة وعبرة ، فحكمة القراءة تكمن في أنها بمقتضاها يمكن إملاء الفراغ ، أو تزجية الوقت ، فالعبرة من القراءة تكمن في التحصيل واكتساب المعرفة ، والتكوين ، كان رحمه الله ، يوم كنت إبنا له ، ضمن أبنائه ، ندا لأقراني : صلاح الدين وعبد الكريم وعبد الحفيظ ، كان يحرص ، ونحن صغارا ، على ثلاثة أمور ، اولا تزاليت أي الصلاة ، ولا يهمه احترامنا لموعدها ، والأمانة ، ثم (تيغري ) اي القراءة و الاجتهاد ، وكذلك كان يفعل ونحن نزوره في السجن ، يا للأقدار بنفس المزار ! ونفس الشيء ، كان يقوم به ، خلال زيارته لنا في السجن ، سواء في اعتقالي الأول أو الثاني ، غير أنه ، خلال هاتين المرتين الأخيرتين ، كان يرسم بسمة خفيفة وهو يسألني عن" تزاليت " . وأهم عبارة لا تزال ترن وقعا ، عندما يقول لي : " تبارك الله ، تلا العمت ، توفيت إمدوكال مادارك إتكان " ، أي " تبارك الله ، كاين الغاشي ، لديك من الأصدقاء من يزورنك " ، وكان يقصد أنه خلال فترة اختطافهم لم يكن يعرف مكانهم وبالأحرى أن يزورهم ، وبالنسبة لفترة اعتقالهم الاحتياطي ، لا يرخص إلا لشخصين فقط ، وقد طلبت بالحاح شديد ، عبد الكريم ابن عمي ان يجلب رخصة لزيارة عمي الحاج علي . دخل عند الكاتبة الخاصة لقاضي التحقيق وطلب منها تحرير رخصة لفائدة شخصين : المنوزي عبد الكريم ومصطفي فاطمة ، أدخلت الرخصة لقاضي التحقيق فوقعها . ذهبنا للتو الى باب السجن ووجدنا فاطمة تنتظرنا ، وبعد إطلاع الحارس المكلف قال لعبد الكريم " الرخصة فيها مصطفي ماشي مصطفى ، جاب الله مصطفى صغير ، الله يسامح " . تصرف الحارس بتلك الطريقة حتى يتناهى الكلام في آذان " صاغية " او أي لاقط غير هوائي . وللتاريخ كان أغلب الحراس متعاطفين . وأذكر ان عمي الحاج علي ، خلال تلك الزيارة طلب من الحارس ان يسمح له بعناقي مباشرة ، دون " كرياج " اي سياج . وسمح لي ، وكان أول تصرف قام به عمي ، رحمه الله ، أن راقب أسناني واحدة واحدة ، وكان لي نابان بارزان ، فقال لي بقلق " كس الصدعنا " ، اي " ازل هذا الإزعاج " . أما أشهر زائر فهو أخي عبد الكريم ، رفيق طفولتي ومراهقتي ، والذي كان يحضر دائما ، ما عدا في حالة الظرف القاهر ، إلى جانب والدتي وأخي العربي ، والذي يصعب ان أحصي جميله علي وعلى والدي ، خاصة والدي الذي كان يعاني من مرض المعدة ، تلك قصة إنسانية جميلة تستحق مني أن افرد لها كتابا بدل تدوينة ، وهي وكل افراد أسرة عمي الحاج علي ، وعلى الخصوص فاطمة وزوجها العزيز الحسين الأموي المانوزي ، وأمي الثانية مربيتي الحاجة خديجة شاو . هذه الأخيرة التي لا تكفيني مجلدات لأوفي حقها من التكريم والوفاء ، ولكن في هذه اللحظة التاريخية من زماننا الوطني المغربي ، لا مناص من استحضار عبارة مأثورة لن أنسى وقعها النفسي ونحن صغار ، خلال فترة الاعتقالات السرية المتتالية ، خاصة تلك التي توجت بمحاكمة مراكش الكبرى وإعدام عمي ابراهيم يوم 13 يوليوز ، دامت لأكثر من سنتين ، من صيف1969 إلى 1971 ، كانت الحاجة تردد " لاح كلو مدن ، حتى يان أوراحاغ إتقراب ولا أسقسان ، لا أمدكال ولا حتى أدجارن ، زوند إيغ إغ نوضن س الطاعون " اي بالعربية " اين كل هؤلاء ؟ لا احد يقترب أو يسأل ، لا من الاصدقاء ولا من الجيران، وكأننا مصابون بوباء الطاعون " . وفعلا قام الناس ، من شدة القمع والترهيب ، بمقاطعتنا ، لا تعامل ولا تواصل ، وحتى من كان يتعاطف معنا ، يساندنا من بعيد ، كان تواصلهم شبيها بما يجري اليوم ، وكأننا في حالة حجر صحي . لقد عانينا جميعا من هول الحصار القاتل ، لقد اقترن هذا الحصار بحقد بلغ احيانا درجة العداء ، فلن ننسى يوم بادر عدد من الأعيان والعملاء ، إلى تخوين العائلة ، وقد حرروا عريضة الى الديوان الملكي يتبرؤون من " نضالنا ومقاومتنا " وهذا ليس بجديد ، فقد قام اجدادهم بنفس الشيء ، إبان الاستعمار . إلا أن مظاهر العداء والتخوين ستنقضي في منتصف التسعينيات ، ولحد يومه يتأرجح السبب ويتوزع بين فرضية التوبة وأزمة ضمير ، وبين فرضية النفاق الاجتماعي ، وارجح الفرضية الأولى لأن الترهيب والقمع لعب دوره ، فكما رجعت المياه إلى مجاريها ، يوم فسخ عقد الحماية ، كذلك وقع يوم قرر القصر ، في عهد الجديد ، ولو أن بعضهم تاب غداة تعيين حكومة التناوب التوافقي. غير ان الفارق بين الوقائع هو أن الحجر الصحي الكوروني تقرر بنص قانوني ، في حين تقرر حجرنا السابق بتمثلات واقعية ، ولكم أن تحكموا وتميزوا . وتحضرني واقعة إعتقال الفقيد محمد أشوان ابن خالتي فاضمة ( الشقيقة الأكبر لوالدتي ) يوم حمله بعض التغذية والملابس لجدتي ، مبعوثة من طرف عمي لحسن غاندي المنوزي ؛ وكذلك انتقاما من مساعدة خالتي خليج وفاضمة وابنائها لوالدتي في درس محصول الشعير الذي زرعوه ، على قلته ، لأن ما تم حرثه كان قليلا ، بالنظر إلى المساحة الكبيرة التي صادرتها السلطات العمومية إثر تنفيذ الإعدام في حق الشهيد ابراهيم . كانت جدتي ام المانوزيين رحمها الله ومعها امي كلثوم حفظها الله محل حصار ابناء القبيلة بإيعاز من السلطة وأعيانها . رغم اي حصار ، فعهدنا المستدام ان نظل منوزيات و منوزيين ، ولا منزويات ولا منزويين مادام الوطن موشوم بدم شهدائنا وأبرار وشرفاء تاريخنا .
التعليقات
كل التعليقات الموجودة في الموقع لا تعكس وجهة نظرنا
كل التعليقات الموجودة في الموقع لا تعكس وجهة نظرنا