السبت 25 أغسطس 11:08
16350
كانت رائحة مرض نفّاذة تفوح من جوف ذلك الرجل العالق بين سطور كتاب لم يُكتب بعد. يحلم بكتابة رواية لم يسبقه إليها أحد. نصحوه بأن يشق جدولا صغيرا داخل روحه ليُسقى، وبأن يحاول إذلال غيرته من الروائيين الناجحين، الذين يقرؤهم بنهم عارم، بقراءة الكثير من الكتب النادرة والفاتكة، وبأن يتعقب الأعمى في أسفاره، ويَحْمِلَ عنه ذلك المصباح الذي يضيء دون أن يراه. أوصوه أيضا بأن يتسلح بخيال جارح، وبأن يجيد الاستخدام المفرط لخيط “أريادني” ليصنع تشابكات هندسية مينوتورية غير مطروقة.
وهكذا صار يستيقظ كل صباح، ويدفن رأسه بين كتب غامقة يصل إليها بعناد، ويظن أنه محصن بذرع من الزرد وهبته إياه قوة خفية. يقرأ دون توقف، ويستدعي الأسماء والعناوين، ويجرب التراكيب والجمل، ويدوِّن كل شيء بحماس متقد، ولا يتصور إطلاقا أن هناك مكانا أكثر حرارة من الحبكة البوليسية غير المخيبة للآمال.
ومع مرور الوقت، تحولت القراءة لديه إلى نشوة صوفية، وبدأ يعتقد أن أرواح إدغار ألان بو وأليغييري دانتي وميلان كونديرا وهاروكي موراكامي وأومبرطو إيكو وستيفان زفايغ وبول أوستر وهاني الراهب وغائب طعمة فرمان وغالب هلسا وسليم بركات وعبد الحكيم قاسم وفيودور دوستوفسكي وياسوناري كواباتا.. إلخ، تمتزج في عقله، وتتسع لتناسب آخر صيحات الموضة الأدبية. وبدأ حضور هؤلاء يخفت، وسرعان ما أدرك أنه ينبغي أن يخرج من طابور هؤلاء الكتاب العقائديين الذين تراكموا على سريره، واتخذوا لهم مكانا مريحا بين سطوره. أدرك أن عليه أن يقبض على فأس نيتشه ليهوي على كل الأصنام التي صارت لها رائحة الكبريت. وبشق الأنفس، بدأ يصارع الأرشيف بدأب وعزة نفس. يقتل كل روائي يفتح فمه عاليا في نصه، ويخفي كل نص ينقر بسبابته على هذه المحاولة أو تلك.
لاحظ الكاتب أن نصوص الآخرين تزداد اخضرارا كلما محاها أو أحرقها أو أمسكها من شعرها ورماها من النافذة. لم يكن يكتب. كان يحارب جيشا من الاستراتيجيات والحبكات والشخوص والأساطير والحكايات والجمل والتراكيب والأمثال. يريد أن يعلو عليها، فتعلو عليه. يريد التحقق من “أصالة” النص الذي يكتبه، فيكتشف “البريكولاج الفرانكنشتايني” واضحا شفافا، وأحيانا مختفيا وقد أتعبه ذلك الهواء الفاسد القابع في زاوية ما.
ما الذي جاء به إلى هذه المنطقة التي كان يحظرها على نفسه لئلا يخرج الضوء صفر اليدين؟ ما الذي قذف به إلى حرب تأكل منه كل يوم، وتترك فيه أسنانها دون أن يفكر في الفرار؟
ها هو يمشي في ممر ضبابي تصطف على جانبيه أعمدة الإنارة. نصوصه مشوهة، تلملم ثيابها التي تتساقط على الأرض، ويجتهد في إطفاء “الآخرين” وحجبهم عن القراء والمتربصين ومحللي الحمض النووي. يعيدهم إلى أغمادهم ويواصل المشي على مضض، حالما بـ”أصل الشيء”، خائفا من افتضاح طرسه.
في ذلك الممر، يحدث أن يعلو الإطراء ويصطخب الإعجاب؛ ويحدث أن تبدأ السكاكين في العمل بجدارة غير مسبوقة، فتمزق بغيظ ذلك الضوء المرافق للنجاح. وبين هذا وذاك، يشعر الكاتب بأنه مكشوف على نحو مدوٍّ، وبأن عليه أن يكف عن استعارة الحبكات واستنساخ الحكايات وحجبها عن المتنافسين الذين يستجهلهم ويستغبيهم. اقتنع بأنه “لا يكتب إلا الأرشيف”، وبأنه خُدِع، وبأنه مريض بعدم الجدارة..
في آخر الممر، كانت رائحة نفاذة تملأ جوف الكاتب. يكتفي بالضحك، وإنتاج الأصوات.. آآآآآآآ.. أوووو.. إييييي.. ويضحك. لا جمل، ولا تراكيب، ولا حكايات.. الليغو في الطبيعة.. الليغو في الأصوات.
أضف تعليقك