
هل المغاربة عنصريون!؟.. هذا ما يقوله التاريخ
هل المغاربة عنصريون؟ هذا سؤال صعب وعسير، وليس من السهل الجواب عليه، بنفي الصفة أم بتأكيدها. فالتاريخ البشري-ومنه التاريخ المغربي- مليء بالصراعات والحروب لدرجة جعلت المؤرخين يتجاوزون الحديث فيها عن الأسباب فاكتفوا بإحصاء الخسائر ونتائجها على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، بل إن التاريخ الرسمي يكتفي بتسجيل “انتقالات الحكم” والتداول بصيغة تكاد تكون محايدة، وخالية من التفسير العلمي والتاريخي القائم على مبدأ التنازع والعصبية (ابن خلدون)، بل إنه، في كثير من الأحيان، يتجاهل-عن قصد- الأسباب الحقيقية أو بعضا منها التي ساهمت في اندلاع الحروب واشتعال القلائل. فهل فيها ما يكفي للقول بأن الدافع إلى أغلبها كان السبب العنصري؟ ثم عن أية عنصرية سنتحدث؟ ماهي مظاهرها؟ كيف تم التعبير عن صيغها داخل المجتمع المغربي؟
“هل المغاربة عنصريون؟”، أو على الأقل: “هل توجد بالمغرب صيغ عنصرية مغيبة؟”. هل هذا سؤال مفتعل، أم أنه ينتمي إلى حقل “المحاذير المغربية” المقنعة؟ فالمغاربة لايميزون بين الناس حسب اللون أو اللغة أو الدم. هل هذا انطباع لـ”الاستهلاك العمومي”، أم حقيقة “لاتحب القناع”؟
تعلمنا من درس “فرانسيس بيكون” أن التعميم “كهف” يحجب الرؤية، ولذلك لابد من اختبارت ونوازل إثبات، نفيا أو إيجابا. فتاريخ المجتمعات-وهذا لايحتاج إلى تأكيد-يوضح أن كل مجتمع من مجتمعات الدنيا يحمل في بنياته الاجتماعية قيما “عنصرية”، فحتى ضحايا العنصرية أنفسهم، لم نغفل فيهم وبينهم أشكالا من التمايز “العنصري”، مما يدل على أن أنانية الفرد أو “الجماعة المفسرة-الدم-اللون-الدين-اللغة”، مسألة لايمكن تجاوزها إلا بترسيخ ثقافة التضامن والتازر والتآخي.
فقد شهدت المجتمعات البشرية صراعات ونزاعات تصادر حريات الآخرين على حساب حريات أخرى وتنشئ أنظمة عديدة للرق والعبودية يصبح الإنسان فيها هو السلعة الوحيدة بخسة الثمن حيث تهدر كرامته وإنسانيته لأجل رغيف من الخبز يسكت به جوعه أو قطعة رثة من الثياب يستر بها عريه.
لكن ماذا عن عنصريتنا نحن؟ هل هناك فعلاممارسات قائمة على نظريات الإحساس بالتفوق العرقي وكراهية الأجانب بالمغرب؟
يقول عبد الوهاب الدبيش(أستاذ جامعي-شعبة التاريخ): “موضوع كهذا ظل ولايزال بكرا، ولم تتناوله أقلام الدارسين المغاربة، بحكم هشاشة البنية الثقافية المؤججة بقنابل موقوتة يمكن أن تثير أشكالا من التعبير، لايخلو من أحقاد سببها سوء التفاهم وماترتب عنه من صيغ للظلم والظلم المضاد عن كل الأطراف الصانعة للتاريخ ببلدنا.
ويكمن السبب الثاني في أن ملفا كهذا مرتبط بالبنية المجتمعية التي لاتزال القبيلة أحد أبرز أنويتها.
وسيظل هذا الموضوع من المحرمات التي لايحق تناولها في نظر الفاعلين السياسيين، إذا لم يحصل ما يدعو الى القول بأن المجتمع المغربي لم يعد مجتمعا قبليا في نمط تفكيره وآليات تنظيمه”.
ثم إن موضوع العنصرية-في المغرب كما في غيره من المجتمعات الإسلامية- مغلول بالوازع الديني الذي لايسمح له بالإعلان عن نفسه (إن كان موجودا بالفعل!). فالرؤية الإسلامية تنظر إلى النوع الإنساني في إطار نسيج واحد بعيدا عن العنصرية والتفرقة• يقول تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)• ويقول:(إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض).
فالواقع أن تشعب الظاهرة وامتداداتها داخل المجتمع المغربي، عبر العصور التاريخية، لايسمح بالقبض عليها بسهولة بدون الخوف من الدخول في محاذير عقدية أو سياسية. غير أن هذا الخوف لا يخفي بعض النماذج التي أنتجها التاريخ المغربي.
يقول ذ. عبد الوهاب الدبيش:”هناك نموذجان للعنصرية عبر تاريخ المغرب، وهما معا لايشكلان مظهرا واحدا يتمثل في العنصرية المبنية على التمايز الاجتماعي في مجالين هما: مجال العلاقة بين المدينة والبادية/ وهنا سنقصر الحديث عما شاع من أفكار ومعلومات عن عنصرية سببها ما حصل عند البعض من ارتقاء اجتماعي. وآخر بدوي اتخذ أشكالا عديدة تمظهرت أساسا في العلاقة بين القبيلتين المتجاورتين في مجال واحد. ويخص كذلك عنصرية العلاقة بين المرأة والرجل.
يخص المظهر الأول من مظاهر العنصرية مجال العلاقة بين المدن والبوادي. وهذه الظاهرة بلغت مداها في العلاقة بين (أهل فاس- وأهل فاس هنا ليسوا بالضرورة سكانها أو قاطنوها) وبين سواهم من بقية أفراد المجتمع. وأعتقد أن هذه الظاهرة تجاوزت مجال المدينة إلى باقي المجالات المغربية الأخرى، حتى أنه يمكن القول بأن الظاهرة حصرت فئتين اجتماعيتين هما “أهل فاس” و”المغاربة” (لابد هنا من توضيح أن الموقف من أهل فاس في جميع مناطق المغرب، موقف موحد، وهو موقف مبني على كراهية متبادلة بتهم متبادلة بين الطرفين “أهل فاس يتهمون سكان المناطق الأخرى بالبدو (العروبية) وأهل البدو يتهمونهم بـ “الجبن، قلة الباءة ـ الأصل اليهودي).. إلخ”.
هذا الشعور المتبادل بين الطرفين يجد مبرراته في الظروف التاريخية التي مر منها كلا “المجتمعين” أو كلا الفئتين. فقد عرفت فاس خلال أحقابها التاريخية أشكالا متعددة من المثاقفة بين مكوناتها البشرية، ولم تخل هذه الظاهرة من صراعات كانت في بعض الحالات تتخذ صيغا عنيفة بين سكان فاس وباقي المناطق، جعلت أهل فاس يتخذون موقفا حضاريا خاصا بهم وهو “الانغلاق” عبر عنه غير واحد من المؤرخين الذين تناولوا الظاهرة، ولذلك فقد أشار ابن الخطيب الى أن من خاصية سكان فاس أنه “ذيب” وأنه لايعطيك إلا من بقله ولا من زيته”. وهذه الجملة الأخيرة تحمل في دلالاتها أشياء كثيرة تكفي للقول بأنها السبب الكامن وراء الموقف من الفاسيين أو من “أهل فاس” .
هذه القضية الأخيرة تفهم عند سكان المناطق الأخرى على أنها “عنصرية، أو أنها شكل من أشكال “التدليس”. في حين أنها مظهر طبيعي وموقف عادي أساسه أن المجتمع “الفاسي” المتمدن، والذي ألف مظاهر المدينة وتأقلم فيها وضبط قوالب معاملاتها يعرف كيف يوظف مواقفه البراغماتية، في مجتمع قبلي لم يتجاوز بعد في معاملاته حدود المبادلة العينية الى مستوى أرقى، رغم غلبة العمران المديني على أغلب مجالاته الجغرافية. وهذا سبب كاف للقول بأن الفهم بين الطائفتين لم يتجاوز حدود التأويل السلبي للعلاقة بينهما الى ما يمكن من وضع آليات جديدة تجعل هذا الفهم السيء يرقى الى ماهو أفضل من أن ننعت هذا بأنه “يهودي” “بخيل” وآخر “مسلم” و”سخي” أو “كريم”، وانطلاقا من هذه الظاهرة يمكن القول، حتى لا أقفز من مجال إلى آخر أن نفس الظاهرة هي الشكل الغالب على البلدان المغاربية الثلاث “تونس والجزائر والمغرب” فالدولة الأولى حققت ثورة حقيقية في تمدين مجتمعها، وطورت آليات عمل بواديها الى مستوى أن كل قرية أو كل مدشر من مكونات بواديها تحقق فيه نوع من الارتقاء الى درجة جعلت التونسيين موسومين بالدهاء والذكاء والقدرة على الخروج من الموقف السلبي بأقل خسارة ممكنة في حين أن الجزائر والمغرب ظلتا محتفظتين بأنماط مجتمعية “قبائلية” “مضرية” ولم يحدث فيها ما يدعو الى التشابه مع النمط التونسي، فحافظت الجزائر على “عنفها” البدوي، وحافظ المغاربة على ما عرف عن حمق فيهم، فإذن التهم المتبادلة بين أطراف العلاقة السابقة ستظل حية، ما لم يحدث من المتغيرات الاجتماعية ما يدعو الى تكافؤ الفرص بين الفئتين أهل فاس (المستفيدون من التوزيع غير العادل للثروات وأهل البوادي في الطرف الآخر..) “.
لم يخطىء، إذن، عالم الاجتماع “هوبز” الذي نعت الإنسان بأنه “ذئب لأخيه الإنسان”. فالتمايز العرقي يعلن عن نفسه بقوة في الشتائم، أو المستملحات، التي تجعل من هذا “يهوديا” وهذا “عروبيا”، وذاك “شلحا”..إلخ، وكلها نعوت تأتي في سياقات تبخيسية وتحقيرية قد لانلتفت إلى قرابتها “العنصرية”. فاليهودي أنذل الناس. والنصراني أنقصهم رجولة، والعروبي أغباهم. والشلح أبخلهم. ويمكن أن نقيس على ذلك بـ”الشمالي البزناز” و”الدراوي الهمجي المصنن” و”السوسي المشعوذ الساحر” و”الريفي المنغلق الأبله” و”الجبلي العنيد القاتل”..إلخ. بل إن بعض النصائح “العرقية” السائرة تنصحنا: “كل ماكلة ليهودي وماتنعس في فراشو، ونعس في فراش النصراني وما تاكلش ماكلتو”. وهذا يعني أن طعام اليهودي حلال ورائحته نتنة، وأن طعام النصراني حرام وفراشه نظيف.
فهذه التصورات تنتقل عبر المخيلة الجماعية لتعلن انتماءها للأنماط العليا للتفكير التي لا نباشر التفكير فيها بجدية. ومتى قمنا بذلك,، سنكتشف أن لها بداية وجذور رسبها الزمن عميقا في “اللاوعي الجمعي”.
يسترسل عبد الوهاب الدبيش:”النوع الثاني من النعرات العنصرية يغلب على العلاقة بين مجال القبائل المجاورة لبعضها البعض، سواء كانت هذه القبائل عربية أو أمازيغية. وسبب هذه النعرات يكمن في أن كل واحدة من هذه المكونات البشرية يريد أن يحتكر المجال بمفرده، دون إحداث أي شكل من أشكال التعاون. وهذه قضية سببها، هو التحكم في المجال الرامي الى توفير ظروف أحسن للعيش دونما حاجة الى الرحيل نحو فضاء آخر. وأعتقد أن السبب الحقيقي يكمن في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمغرب.
هذا التاريخ جعل التعايش بين القبائل المغربية قديما مسألة صعبة في ظروف جد قاسية أساسها، قلة المياه، وتوالي سنوات الجفاف، ومسألة ضمان مجالات الرعي والري، وهي قضايا جعلت البعض يتهم قبائل جبالة مثلا بالبخل (الجبلي كيدابز على بصلة) أو (المعدة عند الجبلي أصغر حجما من معدة الحياني أو الشركي) أو المزابي “كلب” أو الدكالي “في الأرض وكالة، وفي السماء ركالة وفي الدعاوى بطالة” أو أن العبدي بخيل لدرجة “أن الضيف ما يمشي شبعان” إلخ… وهنالك من الأمثال ما تعرف عادة بأمثال بوطيور (أي الشخص الذي جعل لكل قبيلة إسما يدل على إسم حيوان ما: كلب، حمام، بومة، جدي، بقرة، خنزير، حمار، دجاج، إلخ)…”.
سؤال آخر ينبغي طرحه: هل يدخل التمييز “الجنسي” في نطاق التفسير العنصري؟
يجيبنا: “هذا مظهر آخر من العنصرية يكمن في العلاقة بين الجنسين، وأساسا عند الفتاة، ولو أن بعض المؤرخين يرجعون أن يكون موقف الذكر في هذه القضية هو نفس موقف الأنثى. جاء عند صاحب المنهاج الواضح وكذلك عند ابن قنفد أن “نكاح الحبشية عند المصامدة عار”، وهذه الجملة الدالة على قصرها وردت ضمن كرامات أبي محمد صالح الذي تزوج امرأة حبشية كانت زوجة لأبي مدين الغوت، و هذا الأخير نهى الأول عن الزواج بها لما قد يحدثه هذا الفعل من أثر عند أهله من المصامدة الذين دأبوا على عدم تزويج أبنائهم من الأحباش، فالقضية هنا، قضية “لون” والواقع أن المرأة الأمازيغية عموما خصوصا ذات البشرة البيضاء تحتمل أن تذبح على أن تكره على أن تزوج برجل أسود.
هذه القضية تدفع إلى القول بأن السبب يكمن أيضا في أن المصامدة اعتبروا أنفسهم أسيادا لايحق لهم أن يتزوجوا من العبيد. وأعتقد أن في تاريخ الرق المغربي ما يكشف عن العديد من الحالات التي وقعت وتم تجاوزها.
ويمكن أن أذهب الى القول أنها وقعت فعلا في مجتمع محافظ ومنغلق عند بعض العائلات الفاسية، التي ارتكب أفرادها حماقة الإنجاب من حبشية سوداء، فحرم الابن حقه الشرعي في الإرث بدافع اللون ليس إلا.
وقد بلغت عنصرية اللون مداها عند أهل فاس في قضية عبيد البخاري، وقد أفاد الباحث الدكتور محمد المهناوي، الذي تناول الموضوع غير ما مرة في هذا الجانب، وخلص إلى القول بأن قضية الفقهاء الفاسيين الذين اصطنعوا المعارضة في عهد المولى اسماعيل لتجنيد عبيد البخاري لم يكن بدافع “شرعي” كما جاء في ثنايا فتاويهم، ولكن كان بدافع اجتماعي وهو حرمان سكان مناطق معينة من الارتقاء الاجتماعي، الذي قد تحدثه الخدمة مع المخزن في مراحل نشأة دولته”.
بل إن، في مغرب اليوم، بعض الممارسات التي ما زالت ترتاح إلى التمييز اللوني. وقد تأتت لي فرصة معاينة هذا التمييز في بعض قبائل “الأطلس” التي ترفض تزويج بناتها من “إسوقين” أو “إعرابن”، أي الملونين، حتى إن كانوا من أصحاب الجاه أو المال والنسب الشريف. فهذا الزواج المختلط مسألة لا تناقش، وعار لا تمحوه السنون(!!).
أما التفسير التاريخي لهذه الظاهرة، فهو أن أغلب الأمازيغ الذين لم يذوبوا في المجتمع يعيشون في الجبال أو الصحراء على شكل جيوب لغوية صغيرة لا تتمتع ثقافتها بحماية كبيرة، إن وجدت تلك الحماية. ويعمل الناشطون منهم على الاحتفاظ بلغتهم وثقافتهم، ويتعصبون لعرقهم ويرفضون الاندماج في الأقوام الأخرى التي تشكل الهوية المغربية.
فهذا “الانغلاق” و”رفض الآخر”-بدافع الإحساس بالتميز (نقاء النوع)- هو نوع من رد الفعل على”تميز الآخر” الذي يحمل نوايا الاقتلاع. وهو نوع من رد الفعل عن النظرة التحقيرية التي ينتجها الآخر.
التعاليق