السبت ٠٧ دجنبر ٢٠٢٤

مَشْرُوع زَوَاج -قصّة قصيرة

الجمعة 13 أبريل 09:04
16034

مَشْرُوع زَوَاج
 
(قصّة قصيرة) – محمّد البوعيّادي
في سنّ التّاسعة والعشرين لم يكُن بمقدُور”لام” أن ترفُض أيّ زوج يطرُق الباب، لذلِك حينَ فتَحت الجارة الشيطانة فمها إلى أقصى حدُوده قائلةً:”أفضل من أن تَبقى هكذا تدور بين المقاهي”، لم تملك “لام” أو أمّها كلمة واحدة للدّفاع عمّا يعتبره الجميع، شرف الأسرة.
كانت في المساء، تَسير بخطى مريضة نحو الكورنيش، وتدخّن سيجارة بغضب وحنق، وأرادت أن تضرب كلّ الرجال والنساء الذين يحملقُون فيهَا، وأن تطفئ عقب السيجارة في عيونهم المريضة المتلصّصَة على كل شيء. ويا مَا أثار حفيظتها منظر النّساء الشبيهات بالخيام المتنقّلة، وهنّ سعيدات بالمشي وراء زوج ينفخ صدره ويمشط لحيته بأصابع يديه، كانت تكرهُ الرّجال والنساء معاً والأطفال الذين يحومُون كالأرانب حول أم بكرش كبيرة وعجيزة ضخمة، إنّه منظر كلاسيكي منفّر، وكان يزيد من نفورها، أنّ تلك النسوة المنتفخات ينظرن إليها بشفقة، لأنّها تسير وحيدة فاردة شعرها، وفي يديها سيجارة. كان موقفاً مُضحكاً، انقلبت فيه كل الموازين! لدرجة أنّها شعرت أحياناً بالشقفة على نفسها وعلى الجميع.
درست “لام” ستّ سنوات كاملة بعد المرحلة الثانوية، وفي آخر سنة من سنوات كلية الطب، تتذكّر جيّداً كيف سال دم المُشرف حين ضربته بمجهر صغير فوق صلعته مباشرةً، فتمّ طردها. كلّما تذكّرت تلك الحادثة شعرت بضغط يدي المشرف على مؤخرتها وهو يضحك، ثم ضحكت من منظر صلعته الحمراء بالدم، ثم بكت لخيبتها وسوء الحظ. وغالباً ما كان يختلط الأمر عليها بين البكاء والضحك.
ما الذي يُمكن أن تفعله طالبة فُصلت من السنة السابعة من الطب وقضت شهرين من السجن النافذ؟ كانت تقرأ الروايات والكتب يوميّاً لتنسى غصّة ما حدث، وتقضي معظم أوقات اليوم في محاولة الهروب من وجوه الجيران والأصدقاء، خاصّة الفتيات اللواتي أصبحن طبيبات، والرجال الذين أصبحوا أطباء، مجموعة الطلبة الذين كانوا يأتون إليها في الكافيتيريا قبل ثلاث سنوات، لتقدّم لهم شروحاً في التشريح، وكانوا يحكّون رؤوسهم من الغباء. أمّا الآن فكلما التقاها أحد منهم أو منهن، تهرب إلى شارع مقابل أو تختبئ في زاوية، وفي الأسبوع الماضي فقط، اضطرت للدخول إلى دكان صغير لتشتري قلماً، رغم عدم حاجتها إليه، لتتفادى قبلات صديقتها الشامتة، الطبيبة التي تمّ توظيفها في أقرب مستشفى، والتي كانت تنطق بين مفاصل الكلام عبارة “مسكينة” كأنها علامة ترقيم ضرورية في كل جملة.
في الليالي الطويلة تعارضت أفكار”لام” كثيراً، بعضُها كان عنيفاً لدرجة التفكير في الانتحار، وبعضها كان خفيفاً كالتفكير في الهجرة إلى خارج البلد، وبعضها كان كابوساً، كالزواج من رجل لا يعرف شيئا عن التشريح والتخذير أو لا يجيد القراءة والكتابة في أسوء تقدير، أمّا بعض تلك الأفكار فكان مقزّزاً، مثل تخيّل فم الدكتور المشرف على المختبر بدون أسنان، وهو يلهث فوقها في منظر مشبع باللزوجة والدم السائل من رأسه. والآن منذ أسبوع لا تفكر إلاّ في كلام الجارة، الجارة التي نجحت ابنتها في معهد التمريض، كانت مقمُوعة طوال سنوات، ويفور كلامها حقداً وحسداً من أمّ “لام”، أما الآن فمبقدورها أن تكرّر كلمة “بدون عمل” على مسامع الأم عشرات المرات في محادثة واحدة، ومن “نبلها” فكّرت في مصير “لام” كثيراً، ووجدت أنّ تزويجها بأخيها سيكون إنقاذاً لمصيرها المأساوي. لم تكن “لام” لتُعير كلام الجارة اهتماماً لولا إلحاح الأم على التفكير في الأمر “ثم إنّ سنك لا يسمح لك بترف رفض كلّ الرجال”، كان سلوك الأم وكلامها يزداد سمّا يوماً بعد يوم، وحين وجدت علبة السجائر بين أغراض “لام” وجّهت إليها سهام النقد طوال شهر كامل:”من سيتزوّج امرأة تدخن؟”، “من سيتزوج امرأة لا تعرف الطبخ؟”، “ماذا لو فاتك سنّ الإنجاب؟”، “بدأت التجاعيد تظهر على وجهك”، “الرّجال جميعاً يفضلون فتاة في العشرين”..إلخ.
كانت الحياة اليومية تتحوّل إلى سجن لا يُطاق، وتزداد الدائرة ضيقاً وخناقاً على صدر “لام” المكتنز، امرأة لها حظها من الجمال، وعقل حر متنور، أمّا رُوحها فكانت مثل طائر يحلّق فوق جبال بعيدة، ولم تساوم يوماً في كرامتها أو حريتها، لدرجة أنّ “الحاج” قبل أن يتوفى خضع لجموح ابنته الثائرة، وقبِل على مضض أن تدرس ابنته الطب، رغم كلّ المخاطر التي تحيط باللواتي يدرسن ذلك التخصص، مثل العنوسة والبوار، والاحتكاك بالرجال والخضوع للابتزاز، وصعوبة الدراسة، وغلاء المصاريف. لكن الحال لم يعد كذلك بعد الآن، فبسبب الأزمات الاقتصادية وغلاء المعيشة، أصبحت الطبيبات أغلى سلعة موجودة في سوق الزواج. لكنها ليست طبيبة، بل مجرد فتاة لها سوابق، وذلك بسبب عشرين غرزة طُولية في صلعة الدكتور المُشرف على المختبر.
في صبيحة يوم الأحد، وقفت الأم على رأس “لام” عند التاسعة صباحاً، كان الجو لازال غائماً، والجميع نيام، لكن الأم نكزت ابنتها بقدمها مردّدة على مسامعها أنّ الغسيل والطبخ والكنس ينتظرونها، وأنّه لا مفرّ من تعلّم كل شيء حول واجبات الحياة الزوجية. نظرت “لام” من تحت الغطاء كالقطة إلى أمها، ثم عادت إلى النوم، لكن نبرة صوت الأم بدأت تعلو شيئاً فشيئاً، ثمّ قالت الجملة التي كانت تنتظرها “لام” في لاوعيها بخوف وتوجس:
“مال الحاج لن يشتري لك زوجا، مهما كان للمرأة من المال فهي تحتاج ظهرا لتستند عليه”.
كان الحاج، بشبش المولى طُوبته، تاجرا في الأثواب، وقد ترك مالاً وفيراً وأملاكاً تغطّي مصاريف العيش، وتغطّي مصاريف دراسة “لام” والأخ الأًصغر في الخارج، لكن بعد فضيحة كلية الطب التي دوّت كالرعد في كل أرجاء المدينة، لم يعد النصيب متكافئاً، يحصل الأخ الأصغر على كل شيء، ولا تتوفر “لام” إلاّ على مصروف بسيط، فالإرث لم يقتسم بعد، وهو الأمر الذي تحرس الأم، باتفاق، مع العم، الحاج الآخر، على أن يتأخر أكبر مدة ممكنة، حتى يُنهي الأخ الأًصغر دراسته.
نظرت “لام” في حنق إلى الأم، ثم فكرت في ترك البيت، لكنها قبل ذلك فكّرت طويلاً في أمّها العابسة، ثم إلى أين ستذهب؟ إلى بيت الأعمام أو الأخوال، وكلهم سيشعرون بالعار لوجود امرأة عانس في بيوتهم، وبعضهم قد تبلغ به الوقاحة ليخاف على أخلاق أبنائه، كانت عائلتا أمها وأبيها كائنات خبيثة وانتهازية، وعلى كل لم تزر أحداً منذ وفاة الحاج قبل سنوات. نظرت “لام” إلى الأم طويلاً، وأخبرتها أنّ أفضل طريقة كي لا تنتحر ابنتها شنقاً، هي أن تتركها وشأنها مع النوم والخروج والدخول والتدخين. ثم عدّلت من جلستها ورفعت سبابتها وبدأت بالزعيق والصراخ والتهديد، ولم تشعر بنفسها إلاّ وإيقاع العزف يرتفع والنغمة تصبح أكثر حدّة، وفي لحظة، لم تتصور نفسها يوماً قادرة عليها، ركضت إلى المطبخ وحملت سكين خضار ووضعته فوق بطنها، مهدّدة بقتل نفسها أمام الأم التي أصبحت صفراء شاحبة اللون.
بعد تلك الحادثة لم تعد الأم للضغط على ابنتها، فهمت أخيراً أنها يائسة وعصبية، وفي محادثة لاحقة شعرت الأم بكمّ الألم الذي تسببت فيه حادثة كلية الطب لابنتها، فتعاطفت معها، وفهمت كل شيء، ولم تعد مرة أخرى إلى أسطوانة الزواج والأبناء، لكن كلما أُغلقت باب من جهنم تُفتح عشرٌ أخريات.
في متم شهر غشت، كان الأخ الأصغر، الذي لم يعد صغيراً، قد عاد إلى المنزل، حاملاً شهادة في التسيير والتجارة من أوروبا، وكان على أتمّ الاستعداد لتسيير محلات أبيه التجارية الثلاثة. وفي الوقت التي ظنت “لام” أن الأزمة فُرجت، كانت أسطوانة جديدة قد وُضعت على الحاكي، وبدأت نغمة جديدة وعزف جديد. 
بعد مرور يومين من قدومه، وفَرْدِ الهدايا والروائح والعطور والأشياء الأوروبية الثمينة، وبعد العناق والمحبة، فرك الأخ الصغير، الذي لم يعد صغيراً، لحيته وقال لأمه في غضب:”كيف لم تتزوج “لام” بعد؟”، وهنا فهمت “لام” التي كانت تقف في المطبخ، أن لحية أخيها لم تكن مجرد موضة.
في مساء ذلك اليوم، اقترح الأخ على “لام” أن تتزوج صديقه، شاب محترم ويقوم بواجباته كاملة، ولم يبق له في الواقع إلاّ إكمال نصف دينه، وسيكون من الجيد أن يكمله مع أخت أقرب أصدقائه، لكن الأخ الأصغر سنّاً والأكبر حجماً، لم يتوقع الردّ السّاخر واللاذع الذي وجدت “لام” نفسها مضطرة له، كي تحسم المسألة:
– أخاف عليه أن يخسر النصف الأول معي.
ولم تعرف ما الذي حصل، لكن طعم الصفعة كان قويّاً ومريراً، وبدون سابق إنذار قفزت دموع خفيفة إلى عينيها، وتحولت في لحظة إلى دموع غزيرة، وسالت على الخدين الموردين كالورد الأحمر، وشهقت، وأرادت أن تسب أو تلعن، لكن عضلات أخيها بدت كبيرة، فقامت إلى غُرفَتِهَا وبكت طوال الليل.
كان القهر الذي تشعر به “لام” يفوق ما يمكن أن يتحمله الإنسان، فالطفل الصغير الذي كانت تصحبه إلى المدرسة، صار يضربها الآن، ويُملي عليها ما الصحيح وما الخطأ، بل إنّ صراخه استمر طوال الليل مهدّداً بتزويجها بالقوة.
عادت “لام” إلى التفكير الليلي مرة أخرى، وفي الصباح الباكر وجدت قدميها تقودانها إلى وسط المدينة، وفي لحظات لم تكن تعي فيها ما تفعله بحكم القهر والغضب، طرقت باباً في عمارة قديمة، فخرج شاب وسيم متوسط الطول، يقارب سنه الخامسة والثلاثين، وكانت عيونه حمراء ورائحة فمه تفوح كحولاً، ومن لباسه غير المحتشم، كان واضحاً أنها أيقظته من النوم. ارتمت “لام” بين أحضانه وهي تبكي، فمسح دموعها، وأدخلها، ثم في المساء اقترح عليها أن تعود إلى البيت وأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد خلاف عادي يقع بين كل الإخوة. كانت “لام” تنظر إليه، وهو يسرد الأسطوانة التي يسردها كل العُزّاب الذين لا يرغبون في ربط حياتهم بامرأة، كانت تنظر إلى عينيه غير مكترثة بما تنطق به الشفاه، فمر كلامه دون أن تسمعه، لكنها فهمت من نظرة عينيه ومن حركات يديه البطيئة أنه لا يرغب في أن يُضحّي بعزوبيته ليقدم حلاّ لفتاة يائسة. وقالت بينها وبين نفسها وهي تمر عبر الشارع الرئيسي نحو الجزء الجديد من المدينة، إنّ الأمر ليس ذنبه، فهو لم يعدها بالزواج، وليس ذنب الأم، ولا الأخ الأصغر، ولا ذنب الجارة الحقودة، أو النساء المنفوخات والرجال الملتحين، وليس ذنب الحاج الذي توفى في وقت غير مناسب، ولا ذنب الطبيب الأقرع الذي تحرش بها، ولا ذنب زملائها الشامتين، ولكن المسؤولية تقع على عاتقها وحدها فقط. وفي الطريق مرت بالحوانيت الثلاثة التي تركها الحاج، ودلفت إلى مكتب أحد أشهر المحامين في المدينة، بعد أن باعت سلسلة عنق ذهبية كانت هدية من المرحوم، وساعة باهضة الثمن، وأقراطاً وبعض الهدايا التي جلبها الأخ، وفي مكتب المحامي دفعت الباب بقوة وقالت بغضب وثورة: “أريد حقّي من الإرث”. فنظر المحامي الشاب بتعجب إلى انتفاضتها وغضبها الجادّين، وبعينين مليئتين بالتقدير على شجاعتها، كان يتفحّص وجهها الغاضب الجميل بإعجاب واضح، ويطرب لنغمة الغضب في صوتها، ثم يسألها بضع أسئلة بسيطة مُبتسماً.

أضف تعليقك

المزيد من ثقافة وفنون

الجمعة ٢٥ أكتوبر ٢٠١٩ - ٠٩:٠٠

” روحو ليها “، ديو جديد لـ “محم عدلي” رفقة شاب جزائري

الثلاثاء ٠٢ يناير ٢٠١٨ - ٠٨:٢٥

عرض لفيلم “المليار” بمدينة سطات

الإثنين ٠٤ نوفمبر ٢٠١٩ - ١٢:٢٠

5 مجموعات قصصية تتنافس للظفر بلقب ملتقى القصة بالكويت

الخميس ٢٦ يوليو ٢٠١٨ - ٠٣:٥٥

قصّة قصيرة: النازيّ الأصلع (1)