إفادة الأربعاء 23 مايو 2018 - 05:19

مصطفى جباري: مصطفى ونعيمة

هنا يوجد كل شيء… كل شيء تقريبا… سيكون تعديد كل ما يوجد في هذا الفضاء الممتد لأكثر من هكتارين شيئا مستحيلا، مستحيلا تقريبا… هنا مطرح نفايات.
وهنا تعيش وتعمل عائلتان. كوخان كبيران كل منهما في طرف، متقابلان. صنع الكوخان من ألواح الخشب والقصدير وغطي سقفاهما بقطع من البلاستيك لمنع القطر والرطوبة.
وهنا التقى مصطفى ونعيمة. مصطفى الابن البكر لعبد السلام، ونعيمة البنت البكر لخربوش.
هي الآن ذاهبة في وسط المطرح تتأمل الأكوام المرتبة: كوم الكرطون والورق، وكوم الحديد والمواد الصلبة، وكوم النفايات الرطبة من بقايا الخضر وقشورها وقشور الفواكه، كوم الزجاج والقناني، كوم البلاستيك… ومختلفات… كل ذلك في نظام بديع يعرف مصطفى كيف يحافظ عليه، حتى تأتي عربات المشترين لحمله في الأوقات التي يحددها الأبوان.
كانت الشمس محجوبة بغيوم محملة بالمطر لكنها لم تمطر بعد. هذا الجو يعجب نعيمة، فالشمس حين تنكشف لا يمضي على انكشافها إلا ساعتان أو ثلاثة، حتى تطلع من النفايات الرطبة نتاناتها، وتضطرها إلى الدخول إلى البراكة… وهي تحب هذه الأيام أن تبقى في الخارج لأن مصطفى في الخارج، لا يتوقف عن العمل مثل نملة. 
كان مصطفى محط إعجاب العائلتين. قدرته الخارقة على صنع مختارات من النفايات مصنفة بحسب الأنواع، وكيفية ترتيبها على الأرض كانت تذهل والد نعيمة، قبل والده. أما نعيمة فكان أكثر ما تحب، الطريقة التي يشتغل بها ليصنع مختارات الحديد والقصدير، وذلك العرق الأبيض الذي ينز منه وهو شبه سكران بعمله. وحين يجلس ليرتاح قربها تتشرب خياشيمها رائحة العرق ممزوجة برائحة غبار الحديد الذي يكسو نصف جسده العلوي العاري… كانت نعيمة تحب هذه الرائحة، وكان مصطفى يحب عيني نعيمة إذ تذهلان في صدره العاري المتصبب عرقا معجونا بغبار الحديد.
ويوم همس لها وهما يخترقان على العربة الطريق التي تقطع مطرح النفايات: “كنبغيك”. سكنت الهمسة كل جسدها، فدفنت رأسها في صدره وصارت جزءا من ذلك الغبار.
كانت الحياة تنقضي هانئة بعد أن تبدد الصراع بين عبد السلام وخربوش على المطرح، وتم الاتفاق على اقتسام النفايات والتناوب على التصرف في أنواعها…
وقد لاحظ الأبوان: أب نعيمة وأب مصطفى أن الولدين يتفاهمان جيدا. تزداد همة مصطفى في العمل بحضور نعيمة، وتضاعف ما يفرزان من مختارات النفايات، خاصة الحديد من مصطفى، والورق والكرطون من نعيمة… 
وصار الأبوان يطمعان بشكل صامت أن يقترن الولدان لتتوحد أنواع النفايات في مصلحة واحدة…
لكن سريان الحياة الهادئ هذا، سينهار يوم استدعى الباشا عبد السلام وخربوش، ونزل عليهما بالخبر الصاعق: عليهما أن يهزا قلاعهما. فلن يعود هناك شيء اسمه مطرح نفايات. قال له عبد السلام إنهما يمكن أن يعملا في أي شيء يكون مكان المطرح. قال له الباشا إنه كان يتمنى ذلك، ولكن “الشرفا” حازوا الأرض… وفي الباب التقيا “المقدم”، وكانا ممن يلتفتون إليه أحيانا ببعض العطايا، فأبدى لهما حزنه لذلك، وقال لهما سيكون في أرض المطرح فيلات ومسابح وعجبا معجّبا، فلا يطمعا في بقاء هناك… والمخزن ما معه لعب، فرجعا مكروبين.
ثم جاءهما الخبر الصاعق الآخر حين دخل كل واحد منهما إلى براكته. أخبرت زوجة خربوش أن نعيمة حامل. وأخبرت زوجة عبد السلام أن زوجة خربوش جاءت لتخبرها أن بنتها حامل من مصطفى.
في الصباح وقف عبد السلام وخربوش عند بابي براكتيهما. نظرا إلى الفضاء الواسع أمامهما. اليوم لن تأتي حاوية النفايات لتفرغ ما في بطنها. ولن يخرج مصطفى ولا نعيمة للعمل. غدا ربما تأتي عربة المشتري لتحمل كومة الحديد وكومة البلاستيك الأخيرتين… الشمس ساطعة بدون رحمة. كان كل منهما في طرف، متقابلين. وفي لحظة انتبه خربوش إلى أن عبد السلام يقف مثله عند باب براكته، فتوجه نحوه عبر مريرات تتخلل الأكوام. كان يرتب في رأسه ما سيقول. فكر أن يقول له في البداية لماذا لم يقترحا على الباشا أن ينقلهما إلى مطرح النفايات الجديد؟ وأن عليهما أن يعلقا رايتين كبيرة على براكتيهما، وصورتين كبيرتين للملك… وعليهما… واستشعر قنوطا غامرا من كل هذا، وقال في نفسه: “يجب أن نتفاهم أولا متى سنعقد القران بين الولدين.”. وتصاعدت في الجو نتانة النفايات الرطبة من أثر الحرارة.

التعاليق

المزيد من ثقافة وفنون

تلفزيون الموقع

تابع إفادة على:

تحميل التطبيق