الأربعاء ٠٩ أكتوبر ٢٠٢٤

لذّة النّصُوص: رواية “المغاربة” لـ عبدالكريم جويطي

الثلاثاء 31 يوليو 10:07
7520

نقدّم، هُنا والآن، نصوص مختارة من رواية “المغاربة” (الصادرة عن المركز الثقافي العربي، ط الأولى 2016) لعبد الكريم جويطي؛

شعب بلا خيال لم يحلم بمجتمع آخر إلا من خلال متنبئين فاشلين ومدَّعين بئيسين للمهدوية. أينما وليت وجهك ترى الشعب وزَّع كل آلامه على القبور، وخصَّ كل واحد منها بشفاء مريض وقعدَ على قارعة التاريخ ينتظر الكرامات…
ولأنني أعرف أن المخزن لم يعد يتضايق في سريرته، من المنذرين بالطوفان والكارثة والفوضى القادمة والارتطام بالحائط، بل يسخر من سذاجتهم ومن خلطهم الْمُحْزِن بين ما يتمنونه، وبين واقع اشتغل عليه لعقود ليفرِّغه من الحالمين والغاضبين ومن القادرين على تجميع الناس، واقع يستطيع فيه طبل وغيطة أن يلهبا الجموع أكثر، بما لا يُقَاس، من زعماء الوقت الذين أعدوا إعداداً لكي يفتِّتوا ما تبقى من ثقة في السياسة، وفي تغيير هذا البلد نحو الأفضل. وحتى إذا تحرك السيل يوماً، فإنه سيحطِّم كل ما يعترض طريقه، ويهدأ بعد ذلك. لأن لا هدف له غير التنفيس المؤقت، عن قهر وأحزان متراكمة منذ سنوات.. (ص 303).
 
أنا أعمى غرّ، بلا تجربة، ولا مكر دفاعي، وعليَّ أن أشحذ حواسي الأخرى لتعوِّض فقداني البصر. في أيامي الأولى، كنت أدفع صرخة وحشية قوية تتجمع كعاصفة في حلقي، لعلها تُحدث ثلمة في جدران الظلام التي أطبقت عليَّ، وأدفعها بتصنُّع هدوء خادع، بابتسام يائس، بالثرثرة مع مَن حولي، بمحاولة التفكير في عميان انتصروا على العاهة. وأقول لنفسي لماذا ليس للإنسان كبرياء بعض الكائنات الصغيرة مثل النحلة التي تموت بمجرّد فقدانها شوكتها؟ لماذا يقبل الإنسان الاستمرار في العيش وهو ناقص مشوّه ومثير للشفقة؟ ولم تَعُد تفارقني صورة جدي وهو يدعو الله بأن يجعل نهاية بصره وعمره واحدة، فلا يتأخر الموت ثانية واحدة عن موت نور العينين. وكنت أشغل نفسي بجدال داخلي رهيب، ما الأرحم والأفضل لي: لو كنتُ قد ولدت أعمى. أو عماي وقد بلغت الحادية والعشرين من العمر! ومن الأفضل، أن تولد مثل آلاف الكائنات غير المبصرة التي لا تتعذب بما فقدته، أو تصاب بالعمى بعد أن تكون قد أخذت نصيباً ولو قليلاً من العالم، وعرفت الشمس، وألوان الفصول، والأشجار، والطيور، ولون السماء والخبز والشاي، والحمرة الشفيفة للخجل حين ترتسم في الخدين، والدموع حين تنفجر في العينين، ورأيت الحناء في أيدي الصبايا، والماء جارياً في السواقي، والغمام الهارب، وقطرات المطر، وقوس قزح، والأصيل حين يسفح دم النهار ويضرج به الأفق، والندى متلألأ فوق الزهور، وضحكات الشيوخ، وحدب الأمهات حين يرتسم في وجوههن، ووجوه الأطفال، والزهر، وخزَّنت بداخلك الصور والوجوه والأشكال والحركات، وصرت تمدّ يدك كلما عَنَّ لك أمر، وتخرج من ذاكرتك الصور المخزنة بداخلك، تُخرِج ما يُعينك على التعامل مع الشيء كأنك تُبصره. ما الأرحم لك أن تتعذب بما لم تَرَه أو تتعذب بما فقدتَ رؤيته؟ كانت وقائع عمى مُعلن، وكان لديَّ متسعُ سنين من الوقت لأوطِّن نفسي على قبول العاهة. انتظرتها كما ينتظر الأرق ليلَ العذاب. أقبلتُ بحمية على تسميم علاقتي مع كل ما أراه، وعلى ادِّخار كل الآراء التي ترى بأنَّ العالم قبيح والحياة “كارثة مخزية”، وأن الإنسان خُلق ليشقى، وما يميِّز الناس هو نوع الشقاء ودرجته. (156-157)
أعطني يدك أيها الصوت الذي ينادم الذرى فوق عطشي. أعطني يدك وأنت تهشّ للريح والضوء وزهر الأودية والندى البكر لأشياء بعيدة لا تبصرها، لكنها تأتيك طائعة وأنت تلتقطها واحداً واحداً بمنقار حاذق يفصل الحب عن الزوان. أعطني يدك أيها الشوق والوعد الحق.. (ص212)
 
لا أحبّ سلاطين المغرب حين يهنون ويدارون ويتملّقون شعبهم. أحبهم حين يغضبون ويعنفون ويهزأون. أحبهم حين يكسرون تلك الصورة الحالمة لذاتٍ تعالَت على كل شيء، بما في ذلك العواطف وسورات الغضب. لا أحبّ الوجه الجامد، واللغة المحنطة النقية والمعمقة، والتي لا تدع شيئاً يتسلَّل إليها ممّا يجري حقاً من تدافع وكراهية ونقمة وضيق، وتعب متبادل بين الراعي ورعيته. أحبّ الزبد المتطاير ورعشة الحنق في الشفتين، واليد الملوحة بنقمة تتجمّع في الأفق كعاصفة، اليد العنيفة والتي تشتهي أن تخنق وتُجندل وتبقر، وهي تتلاعب بخنجر متوعّد بين أصابعها. أحبهم كثيراً حين يعودون إلى أصل الأشياء ومنبع الطاعة وأس الولاء: القوة ولا شيء آخر. أحبهم حين يرفسون بأرجلهم، في احتداد غضبهم، كل ما بناه الفقهاء والكتبة والمتملِّقون من صيغ مخزنية مقيتة، عن حبّ متبادل مكين وتعلق لا تنفصم عراه. (ص 246-247)
 كم ازدهرت الشروح في هذا البلد، وشروح الشروح، والحواشي، والمختصرات ومختصرات المختصرات، والأرجوزات التعليمية، وطمرت، شيئاً فشيئاً، المصادر! كم حفرت من خنادق عميقة بين العقل وأصول المعارف! في تلك الأوساط التعليمية المتحجِّرة والتي صاغت عقلية المغاربة لقرون، كان كل شيء قد قيل والمعاني والمعارف قد استنفدت، ولم تعُد هناك حاجة إلى بذل جهد في الإبداع والابتكار، يكفي الحفظ والقدرة على الاستظهار. (ص 122).
روحي قلقة، متقلِّبة، وملولة تجدُ نفسها في الكتابة الشذرية لأنها احتفاء بالمتقطع والعابر، بذلك الشيء الذي يتجلى للحظة ويمضي، بذلك الشيء المتلفِّع بكبريائه والمكتفي بذاته وليس في حاجة لأن يسنده أو يبرره شيء آخر. ثم بالكتابة الشذرية أحفظ لنفسي الحقّ في أن أكون متناقضاً، وأن أحطِّم الأنساق التي نسجن أنفسنا بداخلها. أكتب متناقضاً، أكتب الشيء ونقيضه في الآن نفسه. إنها كتابة ما بعد الكارثة حين ينهار كل شيء بداخلك ويتمزّق، ويفقد معناه، وحين تصير أنت نفسك شذرات لكلية كُنتها ولكتابٍ تناثرت أوراقه في الريح. هي كتابة الصدوع والدويّ الهائل للانهيار، والجلبة البعيدة لحياة تمضي بعيداً عني.. قلت له بابتسامة ماكرة: يا عيني على الفلسفة يا عيني. فلم يكترث بتعليقي وواصل بجدية مهيبة: حتى الله، ولأنه يعرف ما زرعَ في العالم من فوضى، فقد كَلَّم رسله بطريقة شذرية. لماذا لم يُنزل الكتاب دفعة واحدة؟ لأنه يعرف أنّ ما عدا الشذرات والشظايا والآيات الْمُفردة زيف وتصنُّع وملء غبي للفجوات. كل نسق جريمة واغتصاب. تلوّى في سريره وكأنه فعلَ ذلك ليهدِّئ حماسه، ثم أضاف: في براءة طفولة البشرية، لم تكن هناك إلا الشذرات، لم يكونوا يعرفون زيف وظلم الكُتب. ثم خلدَ للصمت، وبدا أن صدره الساخط بدأ يستعيد تنفسه العادي لينحدر في أمان أرض النسيان العظيم. قلتُ بصوت خفيض كَمَن يلقي بحجرة صغيرة في بركة هادئة، وعن ماذا تكتب؟ (ص 144).
صَدَّ البحرُ المغاربة الأوائل، فأداروا له ظهورهم. كل هذه الشطآن المديدة، كل هذه الأمواج، والزّرقة الهائلة، ولا أثر لها، حضارةٌ بُنيت بين حواجز ثلاثة: بحر وجبل وصحراء. حضارة رأت في هذه التضاريس ما يصدّ وينهي ويخيف لا ما يفتَح ويبشِّر.. لأن المغرب كان بعيداً جداً، في طرف سحيق من الإمبراطوريات، حيث تخفّ قبضة الدولة والدين والتاريخ، فقد كان دوماً مُلكاً مشاعاً للمدَّعين والحالمين بالسلطة والكذابين الكبار (..)
بلد كطاولة نردٍ حكمه الطاعون والمجاعات أكثر مِمَّا حكمته الأسر المتعاقبة. بضربةٍ خاطفة كانوا يهزؤون بالجيش والعصبية القبلية، ويحوِّلون الديار إلى أطلال.. (ص122).
بلد ببحرين وأنهار جارية وأراضٍ خصبة وغاباتٍ، حَكَمَتْه الصحراء، ومنحته قادَة وزعماء ومنظّرين أشدّاء، محتدِّين دوماً، وضائعين بين النقائض، لكنهم بلا خيال ولا طموح.. (ص 123)
هادئ ورتيب وخاوٍ كَلَيْل الدواوير.. أتعرفون، يا سادة، بأنه لا يمكن أن يكون عندنا فنّ كبير بليل الغطيط والتقلب والفساء. الليل سخاء وجنون وحدس وتحرير للقوى الغافية بداخل كل واحد منا، فإن كان النهار مشاعاً للجميع، فالليل انتقائي وأناني يصطفي خيرة الناس، فالبشرية بأرقيها ومتسكِّعِيها في الأزقة الخالية، ومشرَّديها في الحانات والمَراقص، ومتهالكيها على حاجات أجسادهم، تدين له بأفضل وأسوأ ما فيها. العتمة تحرّر وتشجّع كل شيء على إخراج ما هو حقيقة، ليلُ اللذة والأفراح والدسائس والمكائد والصفقات.. الليل الذي لا ترى فيه اليد التي تُعطي والتي تأخذ، والتي تغتال، والتي تتلمس طريقها على جسد مشتهى، لم تعرف هذه المدينة، باستثناء بيوت أندلسية قليلة، ثقافة واقتصاد الليل اسألوا أصحاب سيارات الأجرة الذين يشتغلون في الليل سيقولون لكم أشياء مذهلة عن مدينتكم. (ص 237)


Warning: Undefined variable $postData in /home/ifada/public_html/wp-content/themes/NewsPaperOne-Light/template-parts/content/content-single.php on line 55

Warning: Trying to access array offset on null in /home/ifada/public_html/wp-content/themes/NewsPaperOne-Light/template-parts/content/content-single.php on line 55

Warning: Attempt to read property "ID" on null in /home/ifada/public_html/wp-content/themes/NewsPaperOne-Light/template-parts/content/content-single.php on line 55
أضف تعليقك

المزيد من سياسات دولية

الخميس ٢٨ دجنبر ٢٠١٧ - ١٠:٣٠

سميرة سعيد تشارك في حفل بملابس رسمية

الأربعاء ٣٠ أغسطس ٢٠٢٣ - ٠٣:٠٦

الاتحاد الإفريقي يدين الانقلاب في الغابون

الخميس ٢٨ دجنبر ٢٠١٧ - ١٠:٥٠

عضو اللوردات: محاولة بريطانيا تغيير النظام السوري يبعث على القلق

الخميس ٣١ مايو ٢٠١٨ - ٠٢:٠٨

انطلاق الحوار التشاوري حول التنمية الثقافية بجهة الدار البيضاء سطات