قصّة قصيرَة: صَلاَةْ (2)
– “مَنْ”؟
فجاءه الصوت المألُوف، ولم يصدّق:
– “أنا، اِفتح بسرعة”.
لم يصدق “سين” كيف تكون هي، في العاشرة مساءً، وسيارة الأجرة؟ والأم؟. توقّفت لحظة تنظر إليه بالعينين الساحرتين، ثم دفعته ودخلت، كان كل ما قاله عن الغرفة صحيحاً، مكان لا يمكن النجاة منه إلا بوضع القدمين فوق السرير. كانت الغرفة مظلمة إلاّ من شعاع أضواء الشارع الخفيفة، وكانت ستائر النافذة الكبيرة لازالت تلعب في الريح، ومنظر بيوت المدينة المضاءة بدا ساحرا من فوق، عاد مرتبكاً بعد أن أغلق الباب، وأراد أن يتظاهر بالمفاجأة:
– هل حصَل مكروه؟
نظرت إليه، ولم يكن هناك شيء ليشرح المكروه الذي حصل، لقد تجاسرت على الخوف، الطفلة الحلوة التي تمضي من البيت إلى العمل، إلى مكتبات المدينة باحثة عن كتب التصوّف، كشفت حجاب الستر في غرفة الشيطان. نزعت حجابها وسترتها العجيبة، بقيت واقفة في شعاع الضوء الآتي من الخارج، بصدرية خفيفة اللّون، تحمل نهدين من العاج والمرمر، كان النهدان واقفان نحو الأعلى، كأنهما يسبحان الله، وفي ظلمة الغرفة الخفيفة اتجهت نحوه، وكان مشدوهاً غير مُصدّق. التصقت به وأدارت يديها حول رقبته، ثم انبعثت رائحة النارنج والمسك من صدرها وثغرها، ومن شعرها فاح اللّيلَكُ البرّي، واختلطت اللغة بالدهشة وانطفأ الصوت، ولم يكن من بُدٍّ لصلاة ما بعد العشاء، أمُّ الصلوات جميعاً.
في صبيحة اليوم التالي، كان الضوء يختلج من النافذة المفتوحة، تحرك جسد “سين” بخدر وتكاسل، كان مُستلقيّاً على ظهره ينظر إلى السّقف حين مسّ شعاع الشّمس وجهه العابس، ظلّ غير مُصدّق ما حصل ليلة البارحة، وحين مدّ يديه إلى يساره لم تكن هناك. لقد استيقظت باكراً ورحلت، آخذة معها عبق الصلاة وكلّ جمالياتها التي لا تحتاج إلا للحسّ والصّمت وليس للشرح واللغة، وجد على منضدة خشبية صغيرة ورقة مطوية فأمعن في كلماتها:
“في اللّيلة الأولى التي رأيتك في الرصيف المقابل تذكرت الخيام، قبيحاً وسكّيراً وزنديقاً، لكن في الجوهر الأعمق كان نبي عصره.
في السبت الموالي رأيت درويشاً عطشاناً في صحراء المدينة، كان الماء موجوداً، لكنّه لا ينسكب ولا يسيل من الزجاجة حتى لو كسرها الدرويش.
في الموعد الذي تلا، رأيت ذئباً تائهاً يبحث عن غابة ليختبئ، وكان كل ما حوله عاريا، وخلفه رصاص الصيادين والمطالبون بدم صبي صغير، كان الصبي هو الذئب نفسه.
في المواعيد القليلة التي تلت، لم أرك أبداً، كنت أرى نفسي أودعّ العالم بين يديك”.
لم يفهم من كلامها سوى القليل، وظلت كلمة “أودّع” ترن في رأسه رنيناً غير مُستحب، ليلة السبت الموالي والجمعة التي قبله والخميس والأربعاء حتى الاثنين، كان واقفاً أمام دكان بيع الأحذية، لكنها لم تظهر، واتصل في كل دقائق اليوم، لكن لا مجيب. وفي ليلة السبت الذي تبعه، كانت هناك فتاة أخرى مصبوغة كلّها وممسوخة الوجه بالمكياج، دخل المحل ونظر إلى حذائها، كان شيئاً زهريا فيه عدة زخارف مبالغ فيها:
– أنا صديق لـ”نون”، ألم تعد تعمل هنا؟
نظرت إليه البائعة السمينة نظرة خاطفة بدون اكتراث:
– الفتاة التي كانت تعمل هنا أجرت عملية استئصال ورم من الرأس يوم الأحد الماضي، متأسّفة جدّاً، لو كنت صديقاً لعرفت بأنّ العملية لم تنجح.
سار في الطريق نحو حانة الشيطان، وكان يضحك ضحكاً شبيهاً بالبكاء وقد سرى في صدره برود غريب، وانتابه للحظة شعور بالخزي والكراهية والحقد، فركل قناني البيرة المعدنية على جوانب الطريق، وأراد أن يصرخ ولكنه كبت الصوت في داخل ضلوعه، ولم يستطع مقاومة العودة للمقهى الشعبي البسيط، فغير المسار، وحين وصل جلس في الطاولة نفسها حيث كانت تحكي عن كتب التصوف وتفاهات الحياة اليومية، ونظر إلى الكلاب السعيدة، ووجد نفسه في وسطها كلباً أجرباً حزيناً جدّاً ومعزولاً مرة أخرى، وتخيل نفسه ذئباً جريحاً يبحث عن غابة ودرويشاً عطشاناً لا ينزل الماء من زجاجته حتى لو كسرها، وطلب قهوة إيطالية وآيس-كريما بالفواكه ثم لم يلمس كوب القهوة حتى بَرُد.
وفي ظلام الغرفة الباردة، في الطابق الثاني، تناول شالاً كانت قد تركته، وشم رائحة المسك والصلاة ودعا الله أن يرعى روح المتصوفة في ملكوت الحقيقة المُطلق ..ثم ثار وسبّ ولعن الملكوت والمُطلق، وكسر مرآة الحمام بقبضة يده فسال الدم، ثم عاد إلى زاويته في الغرفة، فلف يديه في الشال ونظر عبر النافذة الكبيرة إلى أضواء المدينة بعينين فارغتين من كل معنى.