هيئة التحرير افادة الأحد 29 أبريل - 11:30

قصّة قصيرَة: سَرابٌ مَا

سَرابٌ مَا  – فاطمة الزهراء حملاوي

السّاعة لا تُشير إلى شيء…
أنَا النّقطة الأكثر فضاضة في ذاتي، لا أستطيع حتّى أن أكون متشائمة…
الصورة التي رسمتها عني ذات خيال اِستهلكتها وأنا في طريقي إليها… لقد خلوت مني واِنطفأت بالكامل…لم يعد مُهمّاً كم من الهراء سأستنشق كل يوم….هذه الـ”أنا”، هذا الثقل الكياني الزائد لم تعد تعني شيئاً لي…مجرد كتلة وجودية تبدو زائدة عن الضرورة…لايحركها شيء عدا إلزامية الحياة…أي دوافع أخرى مجرد صدفة من اِبتكار الطبيعة…لكن، الأمر ليس تراجيديّاً بالمنحى الذي يخيل لي… بقدر ما هي حالة من النيرفانا الكريستالية التي تعيد هبوطي الاضطراري إلى داخلي…دماغي الفادح الآن يتعلم من صمت الإله… ليس سهلاً أن تكون إلهاً؟ 
” ستتعب حين تُدرك أنّ العالم بأكمله يتضافر ليسرق منك حتّى الشهقة الأخيرة التي في حنجرتك….” 
حدقت في المرآة طويلاً، رأيت جفوني المتدلية…في بؤبئي صورة لامرأة تكاد تُشبهني…حين أغمض عيني كي أمسك بها وألامسها…يُعانِقني الظلام ! أنا مجرّد جثّة مستقبلية…سيلوذُ بها الذباب بعد أن تتعفن خلاياي وتتوحّد مساماتي…
كل هذه الـهواجس كانت تأتي دفعة واحدة إلى دماغي، ليلة طويلة من الهذيان، ارتديت معطفي بعدها وخرجت مسرعة، هرباً من شيء ما، النّفق الأزرق طويل أمامي، نظرات المارة من حولي تقتحم حاجز خلوتي، الأصوات تنبعث من كل مكان، كم سيلزمني من الوقت كي أُسكِت العالم في دماغي؟ 
دخلت العيادة، عدد المرضى النفسانيين يفوق عدد الكراسي المتوفرة، صرت أخشى المجيء هنا، رائحة الهواجس والأفكار المريبة تخنقني أكثر من رائحة الدماء والأعضاء المتعفنة… فتحت أوّل ملف أمامي: ”رياض الأزهري، 38 سنة، أستاذ جامعي….”.. 
رياض كان يزُور عيادتي بشكل منتظم، لا يعاني من شيء غير الوحدة القاتلة، كان يحكي أي شيء عن أيّ شيء، حتى التفاصيل الصغيرة في حياته، ثم يشكرني ويرحل مبتسماً…لا أقدم له شيئاً عدا الإصغاء …رياض ليس ككلّ الأشقياء المساكين الذين يزورون العيادة بشكل يومي، الذين يعانون من كل أمراض العصر: شيزوفرينيا، بارانويا، اكتئاب حاد….رياض شاب في مقتبل العمر هاجسه الوحيد هل بقاؤه وحيداً أمان له أم أن خروجه إلى العالم شيء لابد منه كي يستمر. يقول رياض إنّ حصصه مع الطلاب تخنقه بشدة، يشعر بنظراتهم إليه لكأنه مسخ كافكاوي يتحرك أمامهم، عيونهم الجاحظة، ضحكاتهم الصامتة، أسئلتهم ….بمجرد أن تنتهي الحصة يخرج رياض من الباب الخلفي للكلية، يركب السيارة ويختفي بعيداً عن الأنظار…سألته هذا الصباح :
– لماذا لا تتوقف عن العمل يا رياض وتغرق في الكتابة؟
أنا أحب عملي بشدّة، ما يخنقني هو مواجهة الناس، الحديث إليهم، سماع ترهاتهم…وفي نفس الوقت الابتعاد عنهم يسلبني الشعور بكينونتي..أحسّني جسداً تافهاً يمضي نحو اللاشيء.. بلا معنى، لست أدري أأنَا مُتعب منّي أم من العالم حولي؟ 
كنت أستمع له ولسان حاله ينطق بما لا أستطيع أنا أن أخبر به أحداً، أنا سراب الطبيبة النفسية، الحاصلة على دكتوراه الدولة في علم النفس، لا أجيد التعامل حتى مع نفسي…فكيف لي أن أنفع هؤلاء المساكين؟ 
– لماذا لم تتزوج إلى حد الآن؟
اِبتسم نصف ابتسامة، كتلك التي تلي البكاء عادة…لكنّه بكاء صامت، الزواج بالنسبة لي مؤسسة فاشلة، ما دمت لا أستطيع إيجاد جسد أنصهر فيه وأتوحّد به…حتى أولئك الذين يخبروننا عن الحب والفضيلة سرعان ما تذبل فضائلهم بروائح التيه العفنة، عند أول هاجس يواجهك…بحثي عن المثالية في كل شيء يقتلني…
لماذا توقفت عن الكتابة، أكتب يا رياض، وحدها الكتابة تبقيك آمناً؟ 
أشعر وكأنني نقطة فارغة…تنوس بين العبقرية والعادية…لي أذن ممتازة لكن أصابعي لا تتقن إعادة إنتاج الصوت الذي أسمعه بداخلي…أكتب سطراً وأمزّق الورقة ثم أعيد الكرة مرات عديدة…الرغبة في الكتابة وحدها لم تعد تكفيني…التجربة أيضاً لا تكفي…ما الذي أحتاجه إذن؟ يبدو أن اللغة صارت تضيق بي…ما أشعر به أكبر من أن أسقطه على متاهة الورق….لقد ولدت في الديمومة ويصعب عليّ جدّاً أن أحصر نفسي في مساحة أسطر بئيسة… 
حمل مذكرته التي لا تفارقه، وغادر مسرعاً بعدما حيّاني بابتسامته المعتادة، لا أنكر أن حصة الكشف النفسي التي أقضيها رفقة رياض، تعيدني إلى ذاتي، إلى أقاصي الروح، إلى ذلك القابع في…قد تفرقنا الأجساد، قد لا ننصهر في روح واحدة، لكن الهواجس توحدنا…طلبت من السكرتيرة أن تؤجل الموعد الموالي بخمس دقائق، وهي العادة التي كنت أواظب عليها بعد كل حصة مع رياض…خلال هذه المدة الزمنية، أفتح النافذة وأرقب اِنسحابه الخفيف بسيارته وأشعل سيجارة أدخن معها ما يتركه صداه من حقائق مقيتة…وأعود لاستضافة النفوس التي جرحتها السعادة .
قبل أن أتلقى اِتصالاً من علاء، علاء صديقي الوحيد في هذا العالم، طبيب مختص في علاج أمراض السرطان، التقينا ذات رحلة طبية لجبال الأطلس الباردة…حيث النفوس هناك لا يقهرها شيء…عدا قساوة البرد والفقر والعطالة في الأحلام…نفوس لا تعرف شيئا عن الميلونخوليا والشيزوفرينيا…فصامها الوحيد هو فصام القهر والحرمان…
علاء اتصل بي ليخبرني أنه في انتظاري بالعيادة، لإجراء بعض الفحوصات المتعلقة بورم صغير في ثديي…في الطريق إلى هناك، لم أكن أشعر بشيء، كنت باردة تماماً، حين تتراكم خيباتنا، نفقد الإحساس المطلق بالأشياء، الموت لم يعد يخيفني، لقد مت ألف مرة قبل هذا التاريخ…مت حين اكتشفت صدفة أنني ابنة علاقة غير شرعية، المدعوة والدتي تخلت عني عند ولادتي وهربت من المستشفى إلى عشاقها الليليين…المرأة التي كنت أعتقد أنها أمي الحقيقية ماتت وتركتني وحيدة أدور حولي…دورة الراهب حول النار، أعمد في الظلام المتبقي…ظلام المشيمة المخادعة…مت حين أحببت وتزوجت رجلاً لا يتقن شيئاً عدا فلسفة الخيانة…رجل كنت أشتم في جسده روائح كلّ النساء…إلاّ رائحة جسدي…رجل كان يتفنن في اصطناع الكذب…وكنت أنصت لهرائه وأضحك…أضحك لأن المسكين يتعذب كثيراً ليوهمني بنقائه…لم يكن يعلم أنّ شيئاً لم يعد يهمني…رجل لا يرى في سوى الطبيبة النفسانية سراب الحاصلة على دكتوراه الدولة…وكنت لا أرى فيه سوى كائناً تافهاً أتلذذ كل مرة برواياته المهترئة…لم يكن يعلم أيضاً أنّ ضربة الجلاد مرة واحدة كافية لأن تجعل من قلوبنا مكعب ثلج بارد…آنذاك فقط نختار أنفسنا، وننفي العالم…
وصلت العيادة، استقبلني علاء بروحه المرحة كعادته، علاء اعتاد سماع أنين المرضى…أما أنا فقد كنت أستعجله القيام بالفحوصات اللاّزمة لأخرج من هذا المكان…سلمت على علاء و مضيت مسرعة نحو الخارج…كان يحاول تهدئتي بأن الأمور ستكون بخير، وبأن التحاليل الطبية ستكشف عن كل شيء…لم أهتم لمواساته…في تلك اللحظة لم يفرز دماغي أي شعور بالمأساة والخوف حيال حياتي…كانت لدي رغبة واحدة: أن أغادر المكان… لم أعد أطيق المستشفيات…ولا لون المرض في وجوه الناس…لماذا علينا أن نقتتل في صمت ليضاء العالم من حولنا؟
في طريقي إلى المنزل لمحت سيارة رياض قرب باب مقهى كوميديا…تعمّدت النزول من السيارة والدخول…لمحته جالساً في ركن قصي…اقتربت منه وتظاهرت بأنها مجرّد صُدفة قدرية…دعاني للجلوس…كان يحمل بين يديه ديواناً شعريّاً لأمل دنقل …سألني إن كنت أعرفه…نكرت الحقيقة ونفيت…رياض لم يكن يعلم أنني عاشقة للأدب، تركته يسهب في الحديث عنه وعن شعره…كنت أستمع له بشغف وأراقب ملامحه الهادئة خفية…فتح الديوان وأخذ يلقي على مسامعي قصيدة أحفظها عن ظهر قلب…
أحس حيال عينيك بشيء داخلي يبكي 
أحس خطيئة الماضي تعرّت بين شفتيك … 
اِكتفيت بهذا القدر من الحياة، وودّعته ورحلت على أمل أن نلتقي خلال حصة الكشف النفسي…

التعاليق

المزيد من ثقافة وفنون

تلفزيون الموقع

تابع إفادة على:

تحميل التطبيق