
قصّة قصيرة: نِهَاية (1)
نِهَاية – محمّد البوعيّادي
لَمْ يملك طوَال حياته أيّ ذكرى عن الماضي، سوى مشهد في باحة بيت واسع.. بيت يُشبه بيوت الأحلام القديمة، بنيت حيطانه ب “المُقدار”، حيطان سَميكة مطلية بالجير تُسوِّرُ فناء شاسعاً في الوسط، حوله غُرف مسقفة بالخشب. مشهد من ذاكرة بعيدة تختلط فيها الصور الغائمة برائحة خبز الشعير والنعناع وأذكار الزاوية التيجانية مساء كل جمعة تحت القبة الخضراء، أو في ضريح سيدي “أحمد بنحليمة”، وغالباً مَا كان يُرافق تِلك الصُوّر والأصوات الغريقة شعور بالدّفء وبصوت بَعيد كأنّه ينبع من بئر عميق…ملامح أم من الريف، حادّة الطباع، لكنّ قلبها يُشبه المحيط، وخيال زيتونة بريّة عاقر، طالما سهر تحتها يُدخّن الكيف مع رفاق قدامى شرّدهم الزمان أو سقطوا تباعاً في الموت ..
البارحة فقط تمت إقالته على المعاش.
بدا مُتعباً وكأنّه يحمل ثقل العالم على كتفيه، تورّمت أذُناه مع مُرور السنين، وبدا كأنّه مدرك لنهاية ما، لا يخطئ حدسُه حتى ما لا يراه الآخرون: النهايات..
في التّاسعة ليلاً، بعد أن قَضى مُعظم يومه بَين التردّد على الطبيب والمسجد والتحويم حول مقرّ عمله القديم، عادَ إلى المنزل، نظَر إلى زوجته، كانت شبه ميّتة، بالكاد تتحرّك وتنظر إليه بعينين غائرتين كأنهما تتوسلان شيئاً. كانت في نظرتها ملامح وداع مُؤجل..قبّل جبينها وعانقته بقوة، كأن يديها تسمّرتا على عنقه مثل غريق، لم يكن بمقدورها أن تتكلّم، لكن نحيباً خفيفاً تصاعد من صدرها الضعيف وهي تتمسّك به، نظرَ إليها نظرة أخيرة ملؤها الرضا والعطف ثم انصرف من غرفتها.
الأبناء مُنشغلون بالهواتف والحواسيب، والبنت الكبيرة كانت بالكاد تختطف وقتاً للأكل من كثرة صراخ رضيعها الصغير. نظر جليّاً إلى صُورة معلّقة على الحائط، كان إطارُها قد تآكل: صورة بالأسود والأبيض لشيخ كبير كان يخبره أنّ الموت لا يُخيف الرجال. حاوَل أن يحادث اِبنته وأحفاده، لكن لا أحد اِنتبه لوجوده.
خرَج من البيت يحمل نتيجة التحليل الطبيّ الأخير، ووقف على مسافة بضعة أمتار في الرصيف المُقابل، كانت السماء تُمطر بقوّة في أواخر فصل الشّتَاء، نظرَ إلى المنزل الذي قضى فيه أربعين سنة، كانت أضواء نوافِذه تغمز في اللّيل البهيم، تَبدُو من خلالها خيالات أطفال صِغار يقفزون خلف الستائر، لم يشعر بشيء يشُدّه إلى البيت، رغم وجود أعزّ الناس داخله، ورغم الأربعين عاماً التي قضاها فيه، فانصرف.
عبر الممرّ الطويل نحو محطّة الحافلات، كانت المياه تجرف الحشائش والأشياء وورقة التحليل الطبي، فتطهر المدينة من ذُنوبها وتطهّره من الخوف، وبدت أعمدة الكهرباء الطويلة وكـأنّها تبكي دموعاً رقيقة.
من نافذة الحافلة راقب طريقه نحو العمل، أربعون عاماً في مكتب صغير مع الملفات والوثائق، رائحة البنزين وصداع السيّارات، يتذكّر منهَا طراز فورد القديم ثمّ الميرسيديس 240 التي عمّرت لسنوات طويلة. بدا له في تلك اللحظة أنّه أضاع شيئاً عزيزاً، لكنّه لا يعرف ماذا بالضبط. لقد اعتاد على حياة صغيرة وسط حشد هائل من الناس، كان يقطع المسافة نفسها كلّ يوم ذهاباً ورُجوعاً، وكان يفعل كل مَا يُطلب منه، لكن بالرغم من ذلك لا أحد يعرفه الآن، حتّى أبناؤه. لم يخرج من ضياع تلك السنوات إلاّ بتلك النّظرة الأخيرة من زوجته، تُرى هل ظلمها يوماً؟
عند الثانية ليلا توقّفت الحافلة بمولاي إدريس زرهون، المدينة الصغيرة، وكان الجوّ رعدِيّاً عاصفاً، وما من مكان يذهب إليه، احتار بين قضاء بقيّة اللّيل في فندق صغير، وبين التوجّه إلى مقهى يسهر فيه شباب القرى البعيدة عن مركز المدينة حتّى الصباح، وفجأة سأله شاب يرتدي جلباباً قصيراً كان يتربّص بالنازلين من الحافلات:
– هل تحتاج توصيلة إلى مكان ما؟
كان الشاب من “الخطّافة”، الشباب الذين يشتغلون في النّقل السري للزبائن، بحكم الفقر وقلّة الشغل في الجبل.
كانت سيّارة “البوجو” الزّرقاء القديمة الطراز تتضعضع في الطريق، وربما كان الشاب سكراناً، لكنّه ظلّ يضحك ويحكي له عن الطّريقة التي تغيّرت بها الأُمور في القرى المجاورة، وعن صعوبة العيش في بلاد طَارت مِنها البركة.
كانَ الظلام والمطر يغشيان المكان، لكنّه تعرّف على منطقة “النّزالة” من خلال الأضواء التي كشفت زاوية أقدم مقهى في البلد. كانت أوراق أشجار الزيتون تعكس ضوء السيارة، فيبدو وكأنّها تتراقص على حواف الطريق. لم تمرّ ساعة حتى التفت الشاب إليه مهلّلاً:
– ” على سلامتك يا عمّي “.