سرعان ما صار الضيق من حضور السيدة التي ترتدي الكثير من الملابس نوعاً من الارتياح والطمأنينة، إنها اِمرأة ناعمة في متوسّط العمر، ناضجة وهادئة، وأكثر من ذلك اكتشف أنها مدرسة أدب وأم لأربعة أطفال، وقد كان يشعر بنوع من التناقض تجاه الأمهات والأطفال معاً، فهو يحبهما، لكنّه لا يتصور نفسه مرتبطا بأيّ أم وأيّ أطفال، لذلك ضحّى بشعور الرِّضى الذي كان يحصل له بالقرب من صديقته، وتركها تخرج باكية من منزله في صباح ذلك اليوم.
كان حديث المرأة غارقة العينين هادئاً وجميلاً، ومتناسقاً مع المطر، بالرغم من أنّ صوتها أخذ يخفت شيئاً فشيئاً، حدّثته عن الحياة والمعنى وحب الأطفال، والدوامة الكبيرة التي تجرّنا إلى لاشيء، وحدّثها عن الماء والحياة والأمل. كان متأثّراً يومها بحالة مريض زاره في العيادة، شخص فقد بصره في سن صغيرة، ثم استطاع أن ينقذ عينيه عبر عملية لم تكن نسبة نجاحها تتعدى الربع من المائة، وقد قام بنزع ضماداته شخصيّاً ورأى الضوء يتسلّل إلى عيني المريض، قال للسيدة:
– الدهشة والأمل. هذا ما يمكن أن ألخص به تلك اللحظة، لقد بدا مثل طفل يكتشف العالم لأول مرة، مشدوهاً ونهماً لاِلتهام العالم بعينيه.
كانت (س) تريد أن تخبره أن الأمر شبيه أيضاً بآخر مرة يكتشف فيها الإنسان العالم، آخر نظرة قوية ومرتبكة مثلها مثل أول نظرة، غير أن الأولى دهشة مرفوقة بالصراخ، والثانية حسرة مرفوقة بالأسى والصمت، لكن أنفها كان يسيل بلعاب خفيف، سألته بعض المناديل، فطلب منها فتح المخبإ في المصطبة الأمامية، نسي أنه يضع قنينة كحول هناك، وحين أراد أن يستدرك، كانت المرأة تضحك ضحكة متقطعة، ضحكة متبعة وتميل إلى البكاء أكثر منها ضحكة.
– هل صحيح أنّ الكحول يخفف الألم.
كان مرتبكاً وهو يجيب شبه مُعتذر:
– على حسب نوعية الألم، فالآلام الداخلية تتطلّب أكثر من الكحول، والآلام الجسدية الكبيرة أيضاً، لكنهُ يساعد في بعض الحالات ولو مؤقتا.
ساد السيارة نوع من الهدوء، وشعر ببعض الخجل، لكنه تذكر أنها أستاذة أدب وليست قروية بسيطة قد تحتقر من يشربون الكحول، لكنها متزوجة! وماذا في الأمر؟ لماذا يشرب الرجال المتزوجون؟ ما الفرق؟ لابد أن أستاذة أدب ستتقبل ذلك، قال لنفسه “إنها تُدرِّس للأطفالِ قصائد شعراء يضاجعون بعضهم البعض، فلماذا لا تتقبل وجود دكتور يشرب بعض الكحول بين الفينة والأخرى، لابأس بردة فعلها”.
وسرعان ما فاجأه صوت المرأة المنهك:
– أريد أن أجرب، إذا كان الأمر غير ممكن لا تخجل، أخبرني فقط.
ابتسم الدكتور (ياء) وبدا كأنه غير مصدوم، ففي النهاية ليست أول مرة تطلب منه امرأة أن تجرب شيئاً من المسكنات المستحبّة، فعلت صديقته ذلك عدة مرات، ولم يمنعها إلاّ بالقدر الذي لا يدفعها إلى الإدمان، كان يرتب جرعات كل شيء في حياة تلك الفتاة القروية التي سيقتلها أهلها لو علموا بزياراتها لبيت “الدكتور”، كما يناديه سكان القرية احتراماً، أما في شبابه، فقد كان من نوع الدكاترة الذين يوفرون حُقن المورفين لشابّات الطبقة البرجوازية البائسات في المدينة.
– لكن هل ستعودين إلى البيت دون أن تحصل مشاكل؟
– لا لن تحصل أيّ مشاكل، لا أحد يهتم على أي حال.
– حسنا، لا تجربي جرعة كبيرة.
بعد هنينة صغيرة، بدت على وجه المرأة معالم الارتياح وهي تعب الرشفة تلو الأخرى، انطلقت بشائر وجهها، قال لنفسه “لابد أنها كانت تتألم كثيراً”، فلم تكن لتسأله عن تخفيف الكحول للألم، نعم لقد كانت ملامحها متألمة وشفاهها ناشفة من الألم.
نسيا تماما قنينة “الأبسوليت” والرشفات الارتجالية التي تكشف عن أوّل تجربة للشرب بالنسبة للمرأة الغريبة، وانهمكا في حوار فكري حول الحياة، والأشجار تمر قربهما مبتلة وندية، ورائحة البرد تعقّم الجو والطرقات، كانت رائحة الشجر المبلل، رائحة قشور يابسة وتراب مبتل، وأرض تنفض الغبار عنها، وكان الخط الأبيض وسط طريق السيارات يتلألأ بالماء والضوء، ويعكس شكلاً بديعاً للنور في ظلمة الغابة الكبيرة.
– لماذا نولد؟ سألت المرأة.
كان السؤال دليلاً على أنّها غير خائفة منه، ونوعاً ما سؤالاً مفاجئاً، سؤال فيه نوع من التطبيع، لكنه تعوّد على نقاشات تيولوجية مع صديقته في أيّ وقت كان، لذلك لم يعقّد الأمر وترك الحوار ينساب، وبعدَ تفكّر وتردّد، كان يريد أن يخبرها بأنّ الحياة لا تحمل معنى، نولدُ ونشيخ ونمرضُ ونُعانِي ثمّ نموتُ، وفي ذلك المسار الغريب الخالي من أي تفسير مُقنع، نعطِي دلالات كثيرة لحيواتِنا، نريدُ أن نصدّقها مع علمنا الدفين بتهافتِهَا، لكن شيئاً ما في النظرة المُنهكة، وفي تذكره الأطفال الأربعة والزوج الذي لا يبدو جيداً، وكشوفات الطبيب التي رمتها على مصطبة السيارة، والطبيب والمرض، والشفاء القادم، شيء ما جعله يغيّر نبرته.
– نولَدُ كي نموتْ، وفي تلك الفسحة التي هي الحياة، يكون لنَا وقتٌ كافٍ لنمارِس أشياء كثيرة إذا تخلّصنا من الخوف، نعم نولدُ كي نتخلّص من الخوف الذي يسرْبِلُنا في ظلمة العدمْ، قد يكون تفسيراً غريباً على دكتور يفترض أن يقدم تفسيراً علميّاً، لكنني أظن الأمر يتجاوز مجرد فهم علمِي، فالخوف نفسره ولكن لا نتحكم في دوافعه، كذلك الحياة.
– هل تخلّصت يوما من الخوف؟ تساءلت المرأة.
كان سؤالاً مفاجئاً بالنسبة له، فمعظم من يحدثونه يريدونه أن يخلّصهم من الخوف، خوف الموت، خوف الألم، خوف فقدان طفل مريض، خوف الاضطرار إلى العيش مع إعاقة، خوف من كل شيء ضد الحياة واللذة والمتعة. لكن لا أحد سأله يوماً: مما تخافُ أنت دكتور؟
لماذا تسأل هذه المرأة المتعبة رجلاً لا تعرفه في طريق غامرت كثيراً في خوضه معه؟ فكّر قليلاً في الأشياء التي يمكن أن يخاف منها، وكانت رعدة تسري في أصابع عازف البيانو، خوف يترجمُ إلى موسيقى، رعدة في مسار قطرات الماء وهي تتحطّمُ على الزجاج، وخوف يسري في غابة البلوط الماطرة ليلاً.
– ما الذي يمكنُ أن يخاف منه المرءُ ما دامت لديه موسيقَى وقنينة أبسوليت في سيارته. قال مازحاً.
ثم نظر إلى ملامح المرأة الغارقة في الهدوء، كان يتوقع أن تخجل أو تكون لها ردة فعل رافضة للمزحة، كأي امرأة في تلك الأرض، لكنها بادلته ابتسامة ودّية، كان الجو الليلي غريباً وغارقاً في أيروسية الحياة، هدوء وأصوات حشرات خرجت لتحتفل بالمطر، والظلام كان ساجيا، بحيث لا يتبدّى إلى ما تضيئه السيارات القليلة التي يتجاوز بعضها بعضاً، وبين الغيوم الزرقاء الداكنة، كان القمر يبدو شاحباً ومريضاً، أمّا السيدة فقد مالت إلى الصمت، كأنها تغرق في طقس هندوسي وهي تستمع إليه يتحدث عن الحياة والخلاص والأمل والمعنى، لقد كان واضحاً أنها أحبت الحديث، لذلك صمتت، كانت القارورة لازالت بين حضنها، ترشف منها بين الفينة والأخرى، ثم تعلق بابتسامة على نكتة أو حادثة مضحكة حصلت له مع أحد المرضى، أراد أن يخبرها أنها ربما شربت كثيراً، لكن صوتها المتهالك جاءه خافتاً:
– أكمل الحديث عن الحياة والأمل، وارفع صوت الموسيقى قليلاً، ولا تسألني عن قارورتك.
كان شبه أمرٍ رقيق، لقد أمرته بشكل لا يمكن أن يرفضه، لم تكن هناك أي عجرفة في كلامها، كان شبه ابتهال أو صلاة أخيرة، مدّ يديه إلى قارئ الأقراص، فانطلقت مقطوعة ضوء القمر، وكان كل شيء يوحِي بجو إيحائي هادئ، جو يسري فيه خذر لذيذ وتوقع وكلام كثير لم يقله الدكتور “من أنت؟ وما الذي آذى جسدك وصتك هكذا؟”…
كانت ملامح المرأة مبتسمة وهي تستمع إلى تحليلات الدكتور لحالات الإحباط والأمل التي عايشها في عيادته الصغيرة، حالات كثيرة لأناس عادوا إلى الحياة عبر العينين وآخرين غادروها عبرهما، لقد بدا كشخص في حاجة إلى الكلام، كان في حاجة إلى الدردشة مع تلك المرأة بالضبط، وكان الليل يتوغّل أكثر وأكثر في الغابة.
مضت ساعة كاملة وهو يتحدث وهي تجيبه بنعم وبابتسامات خفيفة، وكلما توغّل صوته الليلي المتعب في تفسير الأشياء أو سرد النكت، كانت عيناها تغفو، ويداها ترتخي، فتجمعهما حول القارورة وترتشف بصعوبة، فيتجرع فمها طعم الفودكا المر ويتنشق أنفها رائحة الشجر المبتلّ الحلوة، إلى أن توقف صوتها عن الـ”نعم” الصغيرة التي كانت تشير إلى تفاعلها الإيجابي مع حديثه. استمر يتحدث قليلاً..ثم انتبه إليها ..كانت قد أغمضت عينيها وسقطت القارورة من بين يديها على أرض السيارة، بدت عيناها محاطتين بهالة ضوئية شاحبة وجسمها مرتخياً على المقعد، أما ملامحها فقد خلت من أي تعبير عن الألم.
أضف تعليقك