إفادة الخميس 10 مايو 2018 - 10:45

قصّة قصيرة: رَشْفَةُ الأَبْسُوليتْ (1)

 في السّابع من تشرين الثاني كان الدكتور (ياء) يحمِل حقيبته الطبيّة ويُغادر مصحّته الصغيرة في ركن من شارع المدينة الرئيسي، كان يستمع في السيّارة إلى بعض المقطوعات الكلاسيكيّة على البيانو ويُراقب حبّات المطر تنساب على الزجاج الأمامي وهو يُتمتم بأغنية قديمة، الطريق مبتلّ والجو دافئ داخل السيارة، بعد أن دخّن سيجارة مابعد العمل المعتادة أغلق النافذة التي في جهة المقود، ثم دسّ رأسه داخل ياقة المعطف الكبيرة، فاستشعر احتكاك القطن مع مؤخّر الرأس، كان إحساساً دافئاً والبرد في الخارج يجمّد كلّ شيء، ذكّره ذلك بلحظة مميزة نوعاً ما، لحظة كانت صديقته تحلق لحيته ثم تحف الشعر الخفيف عند نهاية العنق، كانت تلك لحظته المفضلة في العملية كلّها، شفرة الحلاقة تمرّ أوّلاً ثم بعدها الأصابع الصفراء النحيفة التي تتأكّد من دقّة الحلاقة، كانت الأصابع تمرّ بلذة ولطف وتترك شعوراً باستمرار الأثر لمدة طويلة..خذر لذيذ  جلب ابتسامة صغيرة لحظتئدٍ..ثمّ فجأة تذكر وجه صديقته الغاضب وهي تذكره بضرورة الزواج، وبعدها تذكر دموعها المدرارة وهي تُغادر بعد أن حاولت شرح الضغط الاجتماعي الذي يمارسه عليها الجميع، ساعتها ارتفع إيقاع العزف، تصوّر أنّ أصابع عازف البيانو تصلّبت ثم تكسّرت كالجليد، لكن مشهد الدموع كان يخترق طقطقات الجليد ويوتّر أعصابه..
في المساء يكون الطريق عادة مليئاً بالمتسولين، الشارع الرئيسي مرتع لباعة كل شيء، من الهواتف الجوالة المغشوشة إلى الجسد الأنثوي المضمّخ بالعُطور الرخيصة، لكن في ذلك المساء بالضبط كان الشارع خاليّاً من الناس، وبدا كما لو أن نوتات شوبّان المسائية تتجوّل وحدَها على الأرصفة الرمادية، ثم تصعد لتتلبّس أجنحة الحمام الذي تطلقه بلدية المدينة في الساحات والحدائق، همسٌ شفيف وأصوات بعيدة للأجنحة وأصوات السيارات..
قبل المنعطف الكبير الذي يعلن نهاية المنطقة الحضرية وبداية الطرق الغابويّة المتشعبة نحو القرى المجاورة للمدينة، لمح الدكتور اِمرأة قصيرة ترفع إبهامها للسيارات التي تمر دون اِكتراث، نظر إلى حبات المطر الخفيف التي تتسربل منزلقة على زجاج السيارة وحلكة المساء التي تضمّ الشّمس، ثم فكّر أنّه ما من بأس في توصيل امرأة تبدو مُسالمة، إذا كان طريقها يتقاطع مع الطريق إلى بيته في القرية طبعاً.
دون أن يتردّد ركن السيارة قليلاً إلى اليمين وفتح الباب، ثم سأل السيدة:
–         إلى أين؟
–         قرب أوّل محطة للبنزين.
كانت محطة البنزين على مشارف القرية التي يسكن فيها، بعيدة لمدّة ساعة ونصف، تحيط بها بعض المساكن، وتفرقها بضع كلومترات عن قريته، تمعّن فيها قليلاً بشكل غير مباشر،كانت السيّدة تضع أكثر من شال على عنقها، وأكثر من غطاء على رأسها، معطف شتوي كبير أسود وحقيبة جلدية كبيرة، وبين يديها أوراق تشبه كشوفاً طبيّة، ثم ما أثار انتباهه أكثر: يدان  نبتت على سطحيهما عروق زرقاء بارزة، لم تكن السيدة تتجاوز الأربعين، لكن عينيها كانتَا غارقتين في الأحداق، تحيط بهما هالة زرقاء كالتي تحيط القمر شتاءً، وبنوع من الكبرياء، كان وجهها ملكيّاً، لكنه أسَـرَّ بينه وبين نفسه أن كبرياء السيدة يُحتضر.
–         المحطة توجد في الطريق الذي أنت عليه الآن، إلى أي نقطة أوصلتني سيكون جيّداً.
بعد تلك الجملة من السيدة المتكومة داخل المعطف ! لم تنبس ببنت شفة، ظلّت تراقب أشجار البلوط الأحمر العملاقة على جنبات الطريق، كأنها تقول شكراً بطريقة متكبّرة، بحيث تتحول مراقبة شيء دون اِهتمام إلى لغة شكر بسيطة، كان الدكتور (ياء) يعرف ذلك الطبع النسائي الغبي، ففي الحالة التي كانت صديقته تنزعج أو لا تعترف بجميل يقدّمه، تكتفي بالتركيز على شيء ما، جزء من الديكور أو التلفاز، ثم يخيم صمت رهيب مفاده: أنا شاكرة أو مخطئة نوعاً ما، لكن ليس كثيراً !
 كأيّ شخص يتوقّع أن تنفر سيدة قروية من مقطوعات كلاسيكية حاول تغيير محتوى قارئ الأقراص، لكنها سارعته بكلمة واحدة بخيلة:
–         لابأس !
ما من شخص أكثر نكراناً للجميل من النساء، قال لنفسه، لكن هذه السيدة  تبدو متعبة وشاكرة، يستطيع دكتور مختص في جراحة العيون أن يعرف أنّ هذه السيدة الأربعينية الهشة لم تنم لأكثر من أربعين ساعة، كان حاجز الأشفار متهدّلاً على العيون الغائرة الحمراء وحدقات العين قاتمة تماماً كأنّ أحداً أطفأ فيها سجائره، مما أضفى نوعاً من الحزن  الخفيف على سحنتها الصفراء، جعلتها العروق الحمراء على فسحة الشقرة تبدو مثل سكّيرة تائهة في رواية كلاسيكية.
 ليست بائعة هوى، الأمر واضح، ليست قروية حتّى، القرويات لا يقلن “لابأس” لموسيقى شُوبّان التي تجلب النعاس، “لماذا تبتعد عن المدينة إذا؟  ماذا تفعل هذه الجثة المبتسمة في مقعد سيارتي؟” قال لنفسه.
مرت ربع ساعة وهو يسوق محاولاً ألاّ يدخن، لكنها سرعان ما طلبت سيجارة. “مدخّنة عجوز” ردّد بينه وبين نفسه، لكن لا يفترض أن يتسرّع، رجل يقلع عيون الناس ويقبض المال مقابل ذلك يجب أن يخجل من اعتبار امرأة مدمنة لمجرد أنها طلبت سيجارة.
–         أمر جيد، لم أكن أريد التدخين كي لا ..
–         لابأس، بعض السجائر لابأس بها، لم أعد مريضة الآن.
ثم دخّنا معاً، وظلت كلمة لابأس تصدر طنيناً خفيفاً داخل رأسه، لم يسأل، أنزل زجاج السيارة قليلاً، وأخذ ينثر الدخّان في حين بدت السيدة وهي تمصُّ التبغ بعمق وانتشاء كأنها تدخن لآخر مرة. كان طموحاً لأن يقدم مساعدة، والآن لم يعد يفكر إلاّ في المكان الذي يمكن أن تنزل فيه المرأة البارزة العروق.
–         لاداعي لأن تخمن أين سأنزل، المكان قريب جدّاً.
تغير محتوى قارئ الأقراص، مع غياب الشمس، انطلقت “المقطوعة الليلية” تخرق صمت غابة الأرز والبلوط الأحمر الكثيفة التي تحفّ الطريق، المزيد من المطر خارج السيارة، يبدو الماء بلا لون بارداً، وشبيهاً بتكتلات هلامية للحياة، على الزجاج الأمامي تسبح الأشكال التي تتأتّى من تصادم المطر وانهماره، وجوه، أشياء، خيوط رغبات مائية تتلاشى في الظلام. الدفء داخل السيارة مع رائحة التبغ الأمريكي جعله يتشجع قليلا:
–         ما الذي تفعله امرأة مريضة في وسط المدينة مع حقيبة جلدية دون مرافقة، هل كنت عند طبيب؟
–         نعم، كنت عند طبيب، وتأخّر الوقت، كنت أنتظر زوجي لكن يبدو  أنّه نسي المرور لأخذي.
–         خيراً، أتمنى أنك بخير، وأنك سمعت أخبار جيدة، أما العائلة فيحدث أن ينسوا، ربما افترض أنك ستستقلين سيارة طاكسي باكراً؟
–         كانت أخباراً جيّدة فعلا، الأمر وصل إلى نقطة التحسن النهائية الآن، لم أعد أشعر بأي ألم، أما زوجي فينسى دائماً.
–         جيد، أنا سعيد لأجل صحتك، لا عليك.
–         شكراً.
استمر الحديث بينهما لمدة طويلة، ولم يجرأ على سؤالها: أي مرض تحملين يا ذات العيون الزرقاء الغائرة؟ لا يوجد شخص يحبّ أن تتكلم عن مرضه.

التعاليق

المزيد من ثقافة وفنون

تلفزيون الموقع

تابع إفادة على:

تحميل التطبيق