تِليلّا: مِحنَةُ الجُرحِ الأسود (1)
(قصّة قصيرة) – عبد الرّحيم دَوْدِي
بَعْدَ صلاةِ العشاء، تَقَاطَرَ شُيوخُ القَريّة، ومَعَهُم جدّيَ “سي عبد السّلام” برفقة مُساعده، على منزلِ “سّي قاسم ولد الزّرواليّة”. كان المَوعِدُ كقافيّة مقيّدة في نهاية مُعلّقةٍ جَاهِليَّة. دَخَلَ الجَمْعُ إلى “الدّكانةِ” فَوجَدُوا ضُيوفاً قادمين من قرية “البُرُومِيّين”، جاؤُوا ليشتروا جَلابيبَ الحبَّةِ، أو يَقْتَنِصُوا بَعضَ الخَرِيدَاتِ المصُونات والكَواعِب النّاهداتِ زوجاتٍ لهم أو لِكِبارِ أبنائهم، الذينَ بَدَأت تَصْدُرُ عنهم فَواحِشُ الفِعل. بدخولِ “سّي عبد السّلام” وقف الجَمْعُ يُبَادِلُونَهُ السّلامَ والعِناقَ، فقد كانَ محبُوباً عند الجميع، مَعروفاً بخفّة روحه وكرمهِ وقوّته أيضاً. عندَها جاء “سّي قاسم” مرُحّباً بكلّ الضيوفِ، داعياً إياهم للجلوسِ على فراءِ “الوعولِ” المدبوغة بالملحِ الحرّ، والمفروشةِ فوق زرابي “الدُّوم”. جَلَسُوا جَمِيعاً بِشَكلٍ دَائِريٍّ مَركَزُ قُطْرِهِ “سّي عبد السّلام اليحياوي “حفيد” سيدي يحيى الآزمي الإدريسي”. وحينها جاء “سّي قاسم” حاملاً صينية كبيرة تضمُ ثلاثة أباريق من الشّاي، ترافقه ابنتاه “خديجة” و”عزيزة”، تحملان صحون زيت الزيتونِ والعسل الحرّ والسّمن البلديَّ. بينما تكلّف ابنه الصغير بإحضار صحون الجوزِ واللّوز البلديّ. كانت عيون الضيوف تتركّز على هاتين الجبليتين الموشومتين بجمال غجريّ يضجّ أنوثةً. كانت خديجة أنضج وأكثر أنوثة، تكشفُ قامتها الفارعةُ عن قوامٍ خوطيٍّ ميّادٍ، وعلى صَدْرِهَا يَنطُّ نَهدانِ نافرانِ كأنهما أرنبين مُشاغبين في غابة سعيدة.
التقط “سي عبد السّلام”، بدهاء، زيغَ عيونِ “علي الهوّاري” فعمَد إلى مبادرته بالحديث عن المحاصيل الزراعيّة لهذا الموسم، وعن أحوال ابنه محمّد الذي يدرس في كليّة العلوم القانونيّة بمدينة فاس. كانت إجابات “سّي علي” تشي بالاطمئنان، فالمحصول وفيرٌ والابن أنهى دراسته قبل ستّة أشهر وهو الآن، محامٍ مُتدرّب في المحكمة الابتدائيّة بفاس. وهنا، عاجل “سي عبد السّلام” صديقه باقتراحِ تزويجه من “خديجة” فهي ذات نسب ومحتدٍ شريفين. أدركَ “عليّ”، بخبث أهل الجبلِ، أنّ “سّي عبد السّلام” قرأ عيونه أثناء نظره إلى خديجة وابتسم دلالة الموافقة على هذا المقترحِ.
كان “سّي قاسم” غائباً عندما كان الجمع يتناقشون عن إعجاب “عليّ” “بخديجة” ورغبته في تزويج ابنه بها. وحين حَضَرَ “سّي قَاسَم” بادره “سي عبد السّلام” قائلاً:
إنّ “سّي عليّ” يودّ أن يخطب ابنتكم المصون لابنه المحامي على سنّة الله ورسوله، فخديجة فتاةٌ حسنة التربيّة شريفة النسب، وأبوها رجلٌ عظيمٌ وكريمٌ. وكلّنا نعرف دماثة أخلاق ابننا محمّد مذ كان صغيراً. فالرأي عندي، والجمع الحاضرُ ينحاش لرأيي، أنْ نجمع هذا الطّيب بهذه الطاهرة الشريفة.
نظرَ “سي قاسم” إلى “سّي عبد السّلام” نظرة احترامٍ، فمقامُ الرجل جليلٌ، وكلمتهُ فيصلٌ وحكمٌ وكلّ ما يقترحه لا يحيد عن الصّواب قيد أنملةٍ. طلب من الضيوف أن ينصرف عنهم مدّة قصيرة، ثم اتجه رأسا إلى غرفةِ “لالة رقيّة” واقترح عليها الأمر. أَبدت موافقتها مبدئيًّا، وطلبت من ابنها الصغير مُناداة خديجة للقدوم، تشاورت الأم مع ابنتها، فابتسمت خديجة بعدما بثتها أمّها الخبر، ثم هرولت نحو الغرفةِ وأغلقت الباب. وما هي إلا لحظاتٌ حتى تعالت الزغاريد مخفّفة حرّ صيف متجبرٍ. عادَ “سّي قاسم” إلى الضيوف وعلى وجهه علائمُ الموافقة، قَرَأَ الجمعُ الغفيرُ الفاتحة إِذَاناً بزواجٍ قريبٍ بين الغريبينِ.
وهنا اشرأبتِ الرؤوسُ، وتعالت الصياحات، مطالبةً “سي عبد السّلام” أنّ يحكيَ لهم الرؤيا التي داهمته ذات ليلة ليلاء، حين سلّم عليه سيدي يحيى، في المنامِ، وأودعهُ طِلسماً ربّانياً، يمنحه بركَة معالجة مَرْضَى “بزلُّوم”. فَقد عُرِفَ “سّي عبد السّلام”، من حينها، بقدرتِه على مُدَاوَةِ هذا المرضِ اللعينِ واستئصالهِ كليًّا.
كان كلّ فردٍ يسوّي مكانَ جلوسه. تحلّقَ الجميع حولَ مركزٍ يحمي الوجود من الاندثار من خلال تأبيده في حكاياتٍ تقاومُ النسيان. ثنى “سّي عبد السّلامَ” ركبتيه، ثم غمغم مُصليًّا على النبيّ الكريم وعلى آل بيته الشرفاء، أَخَذَ مِسْبَحَتَهُ وشَرَعَ يمرّرها بين أصابعهِ مسبّحاً بحمد ربٍّ لا يفنى. حين أنهى عدّ المائة نظر إلى الجموع، فتقرّى في عيونهم رغبة لاعجةً للإنصات للحكاية. استسمحهم الذهاب إلى بيت الخلاء، فآذنوا له بالذّهاب، وذهب معهُ لفيفٌ من الشيوخ الكبار حتى لا تهزمهم متانتهم أثناء الإنصات للرؤيا. أخبرتني يمّا “فاطنة” أنّ كل ما كانَ يقوم به “سّي عبد السّلامَ” قبل الحكي، كان ضرباً من المخاتلةِ قصد إشعالِ أوّار التشويق في أنفس الحاضرين.
أضف تعليقك