
قصّة قصيرة: بُومة مِينيرْفا (2)
حملت العصا الغليظة التي أضع قربي وطويت السكين في جيب سترتي الداخلي، ارتديت جوارب صوفية سميكة وحذائي الجلدي العسكري، ثم معطفاً أسوداً من الجلد، وقبعة كبيرة مبطنة بالقطن من الداخل، اِندسّ رأسي داخل دفئها المغري بالعودة إلى النوم، لكن كانت يدي تهتز قليلاً وهي ممسكة بالعصا فأعود إلى غرابة المشهد، حملت المظلة، ومفاتيح البيت، علي أن أخرج للضفة الأخرى للنهر مسترشداً بمصباح يدوي قديم، تأكدت مرة أخرى من وجود الشيء عند جذع شجرة البلوط العملاقة، لازال الشيء المؤنث ينفش ريشه عند جذور الشجرة الممتدة بعيداً وكأنه يلعق جرحاً، أغلقت النافذة فوقفت منتفضة، بقيت محدقا فيها من الزجاج، وبقيت تنظر ناحيتي في تركيز وتوجس هي الأخرى … أغلقت مفتاح الكهرباء، وخرجت إلى باحة البيت، هل أجدها واقفة عند الباب بمجرد أن أفتحه؟ أردت أن أعود للتأكد من أنها لازالت عند منحدر الجبل، لكن لا وقت، فتحت الباب بحذر، كنت أرتجف، لكن صوتاً من الداخل يخبرني بأني إنسان عقلاني، لربما كانت متشردة، لكن لماذا ترتدي لباسا ريشيا مشابهاً؟ وعيناها كيف تسطعان ببريق مماثل وكيف تراني في الظلام؟ لماذا انتفضت عندما أغلقت النافذة؟ … في الخارج، أمام البيت، كان المصباح الوحيد الذي يضيء الشارع الخالي قد بدأ في احتضار بطيء، الريح تصعق الأذن، قوية وباردة، والطريق مبلّل تحوفه البرك الصغيرة والممرات الموحلة.
دلفت إلى الممر الخلفي للبيت، منزلقات طينية تهدّد بالانحدار نحو الوادي، ممسكاً بالسور مشيت على حذر بجانب الحائط الخلفي للمبنى، وصلت أمام نافذة الغرفة، لكن من الجهة الخارجية هذه المرة، ثم وقفت لأرى في الجهة المقابلة، حملت المصباح اليدوي وحاولت إضاءة الضفة الأخرى، لكني لم أجد شيئاً، كان جذع الشجرة العملاقة وحيداً، لا شيء خلفه ولا أمامه، التفت حولي لعلها قطعت الضفة، لم أجد شيئاً، بدا الأمر مريباً، لابد وأنني لم أكن أهلوس، لقد رأيتها بعيني، وأذكر كل حركة من حركات جسدها المتوتر حين تنتفض وتقف، كان النهر ممتلئاً، لكن ليس إلى الحد الذي يمنعني من زيارة الضفة الثانية، كنت قد رأيت في الصباح غصن شجرة عملاق يربط بين ضفتي النهر الصغير، تقدمت مئة متر أو أكثر ثم قطعت الضفة مشياً فوق الغصن، وصلت مبتلاًّ بعد أن سقطت داخل الماء مرتين. على الضفة الأخرى اكتشفت أنّ المصباح اليدوي لم يعد يعمل، كانت مشارف غابة البلوط مرعبة بسكونها الليلي، إذ لا يسمع سوى صوت المطر فوق الأرض المنقعة في الماء، ثم حفيف الأشجار والريح يخترق فجواتها، وفي الداخل، كلما سرح البصر، كان الظلام الدامس يزداد حلكة، مشيت عشرات الأمتار نحو غصن الشجرة الكبيرة لاَ ينير طريقي سوى ما تسلّل من قمر الفجر الشاحب.
وقفت أمام الجذر الغليظ المتشعب في تربة الأرض، لوهلة انتابني شعور بأن البومة الآدمية تنظر إلي من داخل ساق الشجرة، اقتربت قليلا: لاشيء. أذكر أني بقيت محتاراً ساعتها، لم تنتبني درجة مكثفة من الحيرة مثلما حصل لي ساعتها، لم أسمع الصوت المكتوم، لكني وجدت أثراً للريش، استدرت على وقع نافذة تفتح، كانت نافذة غرفتي، ظننت أنّ الريح دفعها بقوته، لكن فجأة اشتعل ضوء الغرفة واندفعت أبواب النافذة إلى الخارج بقوة، داخل الغرفة كانت تقف امرأة بيضاء عارية تتّكئ على حافة النافذة بمرفقيها، لم أفهم ما حصل، كانت غرفة البيت تبتعد عني، وكأن شيئاً هائلاً يحمل الضفة المقابلة بعيداً، ويدي تنزّ بالدم وبقايا الريش، أردت أن أصرخ على المرأة وأناديها، لكني لم أستطع الكلام، كان ذلك الصوت المكتوم ينبعث من جوفي دون حروف ولا كلمات…
التعاليق