
قصّة قصيرة: النازيّ الأصلَع (3)
حين انتهَت من تلك الرسالة كان عليها أن تجمع حقائبها فعلاً، لقد تحرّرت تماماً من خلال الكتابة، كيف للكتابة أن تجعلنا نشفى من أحقادنا على الآخر، الآخر الجسد والفكر والوجود المنفصل عن الذات، كيف يمكن للكتابة إذاً أن تمحو الأحقاد بتكثيفها مهما حملت هذه الأحقاد من يافطات ثقافية أو وجودية؟ لقد تحرّرت من الأسر الذي يشدّها إلى وهم ذاتي..ولكن مع كلّ ذلك، كان هناك خذر لذيذ يسري في ذراعها الأيسر بهدوء، الدوار الخفيف لفقدان الوعي، كانت تغوص في دم خاتر، بركة صغيرة من الكبريت والدم الحارين، كأنّها في حمام بلدي، حيث يرجع صدى الأصوات في الغرف المتداخلة، استرخت فوق السرير، ثم بدت لها ملامح تتولّد من السديم، من سديم السقف، من ماء سقف الحمام، من قطراته الصغيرة الباردة التي تباغث الجسد، ثم رأت خيولاً، وأطفالاً يركضون، كانت حاملاً، ما الذي فعلته؟ ألم تتخلّص من كلّ ذلك الحزن؟ من ثقل الذاكرة؟ ..كانت تخلصت من بقايا أدوية قديمة دقائق قبل أن تبدأ كتابة رسالتها: دواء قيء، وعشر حبات منوم، وبعض الكحول، ومضادات حيوية..أصبحت أصوات الغرف تتداخل، يستيقظ الكلام القديم في العمق، كلمات، ليست سوى كلمات، عن العدم، اللانهائي، المطلق، اللاّشيء الذي سنؤول إليه كما كان يقول، لم يحتج امرأة، لن تحتاج إلى رجل، محاولة أخيرة للتشبث بالكبرياء، لكنها كانت تغرق، تغرق، تغرق ..ثم انطفأ كلّ شيء ..
بعد أسبوعين، كانت الأشياء كلّها بيضاء، ملاءات السرير، القناني المعلقة، لباسها الفضفاض، الفُوط الطويلة والقصيرة، لباس ممرضة صغيرة الحجم تحوم كالنحلة حولها، استيقظت، وشمّت رائحة تشبه رائحة القيء ممزوج بالكحول، تذكّرت ما أخذته قبل أسبوعين، لكن ما الذي تفعله هنا؟ جسدها يرتعش، وأحداق عينيها غائرة في زرقة داكنة.
على الركن الصغير كان النازي القبيح يطالع جريدة، ثم أومأ لها برأسه، تمنت لو تحشر كل المقصات الموضوعة على الطاولة في كبده، لكنّها كانت واهية وضعيفة، أرادت أن تبكي، أن تطلب من الطبيب طرده، لكن الكلمات لم تسعفها، فظلت تجتر كلمات ضعيفة المخرج: كلب، أكرهك، اخرج.
اقترب منها دون أدنى تعبير على الوجه، كان صلباً مثل جنديّ نازي حقيقي، تمعن في خصلات شعرها الطويلة، وفي وجهها الناتئ العظام، كانت كالجثة الحية، أسبوعان دون طعام، إلاّ المصل المعلق فوق رأسها، لقد دمرت جزء مُهِمّاً من وظائف المعدة، سيحتاج الأمر إلى أسابيع لتستعيد توازنها، بدت خفيفة الوزن وحزينة وغارقة في يأس قاتل، يا للمرض كيف يحول الإنسان إلى شبح، مدّ يديه الكبيرتين إلى وجهها الصغير، لم تشعر إلاّ بدفئ بخاري خفيف، كأنها في حمام البخار مرة أخرى، كأنها مستلقية على أرضه الساخنة، تتغلغل الحرارة في عظامها، إليتاها مخذّرتان من كثرة النوم، جسدها يرتعش، جعلها تشعر مرة أخرى بالخذر اللذيذ، كل ذلك من لمسة واحدة، لمسة تأجلت لدهر من الزمن، شهور من الرسائل التائهة، من يصدق أن امرأة حوّلت نفسها إلى جثة بسبب رجل في القرن الواحد والعشرين، إنه وقت طويل، تحولت معه إلى جسد تلتقي فيه الأحزان والأسقام، لكنها الآن تغوص في نشوة لمسة من كفه، بعد كل شيء تشعر بدفق الدم في نهايات أصابعه العصبية، احتكت بكفه كالقطة، كانت تموء في هدوء، أخذ يلاعب خصلتيها ويمرّر كفه على صدغها البارز، ثم لفظ جملة واحدة قبل أن يغادر: لكم أنتِ جميلة في انهيارك ..