
قصّة قصيرة: النازيّ الأصلع (2)
كيف خوّلت لك نفسك أن تتركني وحيدة مع أفكار كثيرة، لقد قضيت معظم فصل الشتاء في قراءة أعمال سيوران ودوستويفسكي، وكثيراً ما حاولت ترجمة قصائد بوكوفسكي لأفهمها، لا لشيء سوى لأحاول فهم ما فعلت، لكن الحقيقة هي أنّك تداري عن فشلك في بناء شيء ما بتلك الاستعارات المركّبة، أنت شخص فاشل، حتى كلمة “إعجاب” لم تعد ممكنة، لقد سقطت أقنعتك جميعاً، لقد صار صعباً بالنسبة لي نطقها، ها أنذا أتحرّر منك نهائيّاً، قريباً ستصير كالفقاعة المائية، تعلو وتعلو مع الوقت ثم تنفقئ، ولن يعود لك مكان تحتله في ذاكرتي..
كنت أراقب الأشياء في الصالون المرتب على أبجدية كلاسيكية، بعض التماثيل البرونزية الصغيرة من العصر الفكتوري، تمثال النبي موسى لمايكل آنجلو، نسخة مشوّهة، كتب صفراء على رفوف قديمة، يبدو أن الدكاترة يستمتعون بمظهر المكتبات الخشبية المُترفة وبالمدفئات من طراز العصر الوسيط..أذواقهم لا تختلف كثيراً، في سديم روتيني واحد يصطفون، بخلاف كونه يضاجع أفضل منك، وخلاف كونه يملك شعراً ناعماً، لم يختلف صديقك كثيراً، الكلمات الكبيرة نفسها، كنت أنظر إلى عينيه العسليتين وهو يلهث، وأحاول أن أتخيل ملامحك مثلما كنت أتخيلها وأنا أضاجع بواب العمارة، أو ساعي البريد، لكني لم أستطع، لقد بدوت لي في حجمك الحقيقي، مجرد جبان، قرد مثقف لا يملك سوى كلمات..
في أول جلسة لم أرغب بالكلام، بقيت أستمع إليه وهو يتدفّق، قال الكثير عن الحياة والناس، سألني عن محيطي وبعض الأصدقاء والأشياء التي تشمّمها جيدا لينفذ منها إلى داخل قلعتي، لم يكن يعلم أنّني فقدتُ كل المعلومات التي امتلكتها يوماً، لقد ألفتُ له الكثير من القصص المحكمة البناء، ومثلك تماماً، كان يقدّم تحليلات للكذب، ويبرع في تخريجه وتأويله بطرق محذلقة ..
لكنه مثلك يا صديقي كان مجرد رجل، فأنّى له أن يفهم؟
لا أريد اليوم أن أكتب لك عن أشيائي الصغيرة، فأنا أعرف أنك لا تقرأ رسائلي كاملة، ربما لا تقرأها على الإطلاق، من يدري؟، وعلى كل فهذه آخر رسالة أكتبها لك، وهي رسالة دافعها سريالي، إذ لا أعرف أي دافع مجنون يمسك بي الآن، كلّ الرسائل التي وصلت وكل الرسائل التي تصل دون أن تخبرك عن شيء، كانت مصادفات مزاجية، ولربما مصادفاتي المزاجية هي من صنعت أسطورتك الصغيرة، حتى ظننت نفسك ربّا صغيرا مألّها بين كل من تعلموا فوق صدري.. أنا امرأة أخرى ومن حقك أن تعرف أي صنم كان يختبئ تحت اللحم الرطب والدم الفوّار..أنا امرأة لا يمكن أن يمتلكها الزمن، الماضي أو المستقبل، لقد ولدت في الديمومة، لذلك عليك الآن أن تنزوي إلى غرفتك وتستمني وتحدث نفسك عن أزمة الحضارة، فلا توجد أنثى يمكن أن تضاجعك سوى عاهرة الدقائق المعدودة، لأنك كما تعلم، لا تملك أيّة موهبة، سوى موهبة التعالي على الآخرين..
“أنا في الخدمة دائماً، اعتبريني صديقك ومتى شعرت بحاجة إلى التحدث اتصلي…” ،هكذا قال لي الطبيب الوسيم، الرجل الذي يعرف كيف يتصرف مع امرأة في فصل الشتاء، أما أنت فلم تورثني سوى الغصة تلو الغصة، وتأتي في الليالي البعيدة لتحدثني عن تراهاتك وقصاصات نثرك الرديء الذي تسميه شعراً..
في الغسق الأخير من الليلة الماضية جاءت الرؤى من جديد، كنت مهتزة قليلاً، نمت على الوسادة و قلبي يجتزه الهلع، أحسست برطوبة الثوب الأبيض تنحت جداول بشرتي الرطبة، الضوء في الغرفة خافت وهادئ، كان الضوء يستريح على الستائر والأغطية، شممت رائحة النسيم قادمة من فتحة صغيرة من النافذة، ورائحة شجرة المسك الليلي فغمت أنفي حين اهتز الإزار الأبيض فاسحاً لها مسلك العبور، أحياناً تكون الروائح الطيبة مبعثاً على الخطر والخوف…
آخر مرة رأيت فيها تلك الرؤية كانت قبل افتراقنا بأسبوع، بعدها تعدد الزوار وتعددت المسارات التي تتبعها الأحداث كل ليلة..حين أحسست بأزيز الباب الخارجي للبيت اتصلت بالدكتور، قال “هي مجرد تهيؤات طبيعية لفترة النقاهة، حاولي أن تفكري في شيء آخر، استثيري عقلك الباطن بالذكريات مثلا…” كان صوته مقتولاً بالنوم والتعب..قطع الاتصال، ثم أعاد الاتصال سائلاً إن كنت أرغب أن يأتي..لكنه وقت كتابة هذه الأسطر ..في اللحظة التي تقرأ فيها هذه الرسالة، الآن، سأكون قد أخذت حقائبي وسافرت، بحيث لا ألتقي مرة أخرى بأي شيء يحمل اسمك ..أي شخص مريض مثلك، أو يشبهك ولو قليلا.
حاولت أن أشعل ذاكرتي بشيء ما، كنت أنت زيت ووقود ذلك الاشتعال، على أن رماد النار تكوم بسرعة في ثخوم الأحداق، لم تدم نار الذاكرة طويلاً حتى خمدت، فقد هاجمت سيول النافذة موئل الشعلة، أطفأتنا بسرعة مثلما تنطفئ الفراشات المضيئة آن حلول الفجر..
كنت هنا فوق السرير، ذات ليلة أذكرها ولا تذكرها، تسربل الثوب تحت فخذين مشتعلين حد الاحتراق، في الليلة الموعودة كانت مدارج النور تخفت حينا وتنضو عنها غبار السواد حينا آخر، لتشب نار القداسة في نهدي، يداك احترقتا باللهب المقدس، اخترقتني، لازلت أذكر كيف ضمّدتُهما بقبلتين بيضاوين كضماد طبي، في احتكاكهما بنتوءات الصدر اشتعلت نار صغيرة عند رؤوس الأصابع..لكنك مع كل اشتعال كنت تخفت، كانت ملامحك تضطرب مع كل حركة للنار التي بيننا، حتى لم يبق منك سوى سديم حراري دافئ..تلاشيت..
أحاول أن أوقظ هذه الذاكرة، العقل الباطني يريد، لكن أطراف جسدي ترتعش مخافة أن ينفلت الريق الأخير من حلقي..وأعود إلى نقطة الصفر. أنت الآن بحكم الغمام العاقر، ستضل حاضراً في سمائي، لكني لا أريدك أن تمطر عليّ آلاماً أخرى، لقد انتهى أمرك، انتهى أمرك.
توقيع : فتاة الأخيلة”.
التعاليق