قصّة قصيرة: النازيّ الأصلع (1)
اِنزوت إلى ركن ركين في الغرفة، فوق السرير تكوّمت، يتخاتل الطيف إليها من خلال ثقوب الذاكرة والأحداث، تسكن في عزلة هذه الغرفة المهترئة ولاشيء يغيّر من إيقاع الغياب الأزلي، مغص الرحيل المُفاجئ لازال متّقداً، كأنّ ذلك الانجذاب وليد لم يكتمل نموه، كأنّه جاء إلى العالم بولادة قيصرية مزّقت خلالها الحبل السري واِنفجرت فيها المشيمة قبل الولادة.
سرحت في متاهات الذاكرة، وأخذت قلم حبر، تختط له بعضاً مما لابدّ من قوله قبل إغماد نصل الانعتاق في شريان الألم:
من طفلة الأَخْيِلَةِ إليك أيها النَّازِيُّ القبيح. بدون تاريخ:
أنتَ..
“من تكون؟، يوم تركتني اِكتشفت بأنّك أحقر بشر على وجه الأرض، جبان. غبيّة لأنني سمحت لنذل مثلك أن يقتحم عالمي الخاص”…
“أنا أمقت احتياجي إليك، أنت مثل لعنة حلّت عليّ، متأكدة من أنّني ارتكبت معصية كبيرة لأعاقب بك، أنت نقطة بارزة في هستيريتي، اليوم أردت الذهاب إلى مهرجان الشعر العربي، لكن خالتي ماتت، ذهبت إلى زرهون، لكني لم أحضر مهرجان ربيع الشعر، بل حضرت موت الربيع، اكتشفت بأنّ الحياة تأتينا لحظة بينما الموت هو الخطّ الممتد في الزمن، ولكني خارج خطية الزمن في هذه اللحظة، لا أدري لما عليّ الآن أن أكتب عنك، يفترض أنها مساحة لِي، لأحزاني الصغيرة، لقد ماتت خالتي، اندثرت مثلك، لكنها لا تحمل ذنب أحد، أنت تحمل وزري، لكن لا ضمير لك لتشعر، ومع ذلك تستمر في التنفّس كأنّ شيئاً لم يكن”.
“البارحة استلمت رسالة من علبة البريد تتضمّن التحاليل الكثيرة التي أجريتها نزولاً عند رغبتك، تفحصت قبل قليل بعضها ورميت الباقي في القمامة، قال لي الطبيب إنّ عندي حالة اِكتئاب، حاول تفسير الاكتئاب في بضعة سطور: هو حالة فقدان للرغبة في الحياة تصاحبها أعراض عديدة كالتفكير في الموت والانتحار – الشعور بالحزن والإغراق في السوداوية…في الحقيقة لا أدري ما الذي يقوله الرجل، فكل ما يقوله لا يرتبط بحالتي في شيء، زاد وزني بعض الكيلوغرامات وانفتحت شهيتي للأكل، لكني لم أندم على زيارته على كل حال، فقد أمتعني أن أشاهده وهو يمضغ الكلام الغليظ المُفرغ من أي معنى، أفكر أحياناً أنّ الأطباء محتالون مثلك، حين يفترض فيكم أن تقدموا المساعدة تخطؤون جميعاً في الوصفة، في المستشفى ملاءات بيضاء كثيرة وغسالات، شعرت وأنا أستلقي على سرير العلاج كأني أتعرض للاغتصاب، دُوارٌ وغثيانْ، ورائحة الأدوية.. يختلف الأمر كثيراً حين كنا نستلقي على الأرض مثلمَا وُلِدْنا.
في أول حصة من حصص العلاج النفسي كنت أفكر فيك بكل جوارحي، قلت ربما كنت الطبيب الوحيد الذي يستطيع اِنتشالي من هذا الوحل، كنت أفكر أنّ حقنة واحدة في اليوم من شفتيك قادرة على تسكين الألم ولو لحين، لكنك لم تكن هناك، كنتَ تغزل أفكارك العدمية حول لاجدوى كل شيء، ألفيت الطبيب خصمي منذ الوهلة الأولى، أراد أن يدخل إلى أقصى نقطة ليعري ذاكرتي ويبسط تاريخي البسيط فوق طاولة مكتبه المُغبرة، لكني لم أكن في حاجة إلى استرجاع ذاكرتي ولا تاريخي المنبوذ، كنت في حاجة لرفقة، لتستمع إلى تراهاتي عن الله والتاريخ وتتحمل بعض التفاهات، لا أفهم كيف لإنسانة مثلي أن تحتاج قرداً مثقّفاً، لقد قرأت كل الكتب التي تتفاخر بقراءتها، ولا أريد أن أفهم ما المميز في حياة الكلاب التي ترغم نفسك عليها، ما أردته طوال فترة غيابك هو أن أفهم، لو فهمت فقط، لربما طلبت منك أن تضاجع نفسك ساعتها، وابتعدت نهائيا، لكن الفكرة لازالت هاربة، أريد أن أصير مثلك في نقطة داغلة من روحي..لكني لا أستطيع، لأنّي من لحمٍ ودم، وأنت من أفكار وأوراق صفراء عتيقة.
كنت أريد شخصاً أستطيع أن أصبّ في أذنيه شبق ذاكرتي المتعبة، فأنا كما تدري (أو ربما لا تدري) أعشق الحكي عن متاهاتي الدفينة وأشيائي الصغيرة بتفاصيلها العبثية، لكن الناس لا يستمعون لأنّ أذواقهم متبلّدة…لكن أنت اِستمع الآن.
كنت أنظر إلى الطبيب بشفقة، كلّ ما يعرفه عن حالات المرض قرأه في كتب صفراء ويعتقد من كل قلبه وبكل وعيه وجوارحه أنّ المرأة صدى أو ميدان تجريب لتلك الترّهات التي قرأها، تساءلت لماذا أرسلتني إلى طبيب وسيم، كأنك تريد أن تقدم لي كل المغريات، ماذا لو ضاجعني فوق سرير المعاينة كلّ حصة، ثم كتبت لك قصصاً عن سوداوية الحياة؟ هل كنت ستدرك شيئا من كل ذلك؟ ألا تهتم حقّاً؟ لو كنت لا تهتم لما أرسلتني إلى أصغر طبيب بالمدينة مع وجود كل معارفك من أطباء آخرين أكفاء مهترئين..
حاولت أن أنظر في عينيه وهو يتخبط كطفل يتعلم المسير، يقول ما أحفظ تماما..
“اِسترخي، اتركي لنفسك حرية الكلام والتعبير…”، التداعي الحر الذي ينهجه مع المكبوتين، أولئك المساكين الذين يبكون ماضيهم عند أول خروج عن الوعي، لقد جعلتني أضحوكة، لم يبق أمامك سوى أن توصي لي بمصح للأمراض العقلية، كل هذا لأنني لا أريد أن أصدق أنك سقطت في الزمن، لن أصدق أبداً أنّك لا تهتم لأي شيء، داخلك لا زال الانتماء إلى نقطة ما يقاوم التلاشي الحر، لا ترتكب شيئاً مماثلا مرة أخرى، لأنني ضاجعت الطبيب الشاب. أعلم أنّ ذلك لا يمثل أي شيء بالنسبة لك، لكنه لم يكن يصلح سوى لذلك الأمر فقط.
لو أنني غبت عن حالة التناسق في القول، لو عبرت عما كنت أفكر فيه آنذاك كنت لأصيبه بسكتة قلبية، لقد استمر يلهث مثل كلب في الظهيرة، لم أتحرك أبداً، حاولت أن أرقب أشياء في السقف أو أن أتخيلك، لكنك لم تنجح هذه المرة في القفز إلى ذاكرتي، أعتقد أنّي تحرّرت منك تماما، “أنا حرّة منك تماماً أيّها النازي الأصلع”.