
قصّة قصيرة: البُرتقالةُ الشّاحِبَة (1)
أهملتِ الكتاب جانباً وأخمدَت السيجارة في المطفأة، حدّقت طويلاً في الرماد المنثُور على جنبيها، نقط صغيرة ملتهبة تموت مراراً، مسربلة في ثوب النّوم الفضفاض الأبيض وقفت (ش) على حافة سطح العمارة الشّاهقة، كان عالياً جدّاً بحيث يتبدّى الناس في الأسفل قطرات زفت سوداء متناهية الصغر، كانت في عباءة النوم، حافية القدمين، شعر سيء قصير منسدل على جنبات العنق الأسمر، كتفاها الصغيران منكشفان للشمس الشتوية المريضة.
وقفت على حواف السطح الشاهق، تحملق في سحابة منعزلة تحتل سماء الشارع الكبير، في الأسفل يتبدّى النّاس والأشياء نملاً جائعاً، ينغلون في دأب وسرعة، ظلّت تُراقب تلك الحركة المقلقة قرب باعة البرتقال، النّاس يركضون، يتدافعون في الزحام، بعضهم يجرُّ أطفالاً وآخرون يعزفون على الطريق عزفاً منفرداً، بعضهم مثنى مثل طائري شتاء مرحين، وآخرون يجرون ظلالهم بلا رفقة.
الساحة العمومية مرتع لباعة البرتقال في فصل الشتاء، وهي هناك تراقب الأرض المُطرّزة باللون الأصفر والبرتقالي وتسترجع ضيق اللحظات المنفرطة، إحساس غارق في القهر، مسلوبة الإرادة وفي أعماقها نفي ساحق للمشيئة الذاتية، تحس ذاتها مسبورة ومنكشفة أمام طاقة هائلة تفوق مقدرتها، تحتويها فعلاً وعقلاً، تفكّر في يدٍ أشبه بيد إله تخنقها، تكاد تقطع عنها الأوكسجين، لربما اِكتئاب عميق هذا الحزن الذي لفّها في كفن المساء الشتوي المُحايد.
يشبه ذلك الشعور المنفلت حالة اِكتئاب حادّة، الحزن كائن يثقل على صدرها، لكن الأسباب مجهولة بحيث لا تستطيع وضع يدها على جرح ما وتقول هنا، هنا بالذّات وليس في مكان آخر، تلك اليد نفسها جزت عروقها في زمن مضى، لم تكن يدها هي، كانت مجرد وسيط محايد أيضاً.
مرت الذكرى خاطفة في رأسها، لثمت الشفرة ثم غمستها في رطوبة الرسغ الأيسر الرقيق ففار الدم نبعاً جبليّاً..لكنها لم تكن هي الفاعلة، تشعر أن مصيراً تراجيديّاً ينتظرها خلف كلّ فتحة باب، خلف كلّ منعطف، في كل حركة، في كلّ زفرة أو شهقة، إحساس ثقيل بغياب السيطرة على المصير، كانت قلقة ومنطلقة في الآن ذاته، أقلها ستضع حدّاً لهذا الضيق الأزلي، ستحلق عاليا، ولا يهم ما يأتي بعد التحليق، هكذا فكرت وهي تقدم على رمي جسدها من الطابق الشاهق، أما رُوحها فقد فقدتها منذ مدة طويلة.
******
يغازل رواد مقاهي الميناء كؤوس الشاي السّاخن المنعنع، يلهثون من البرد، يثرثرون حول أشياء لاقبل لهم بها، كذلك هم دائماً، حين كانت تمر أمام المقهى حاملة قفة الخضراوات الشتوية أو سلة البرتقال الرخيص، كانت تنتبه إلى ثغائهم، معظمهم عجائز، رفضوا أن يصعدوا إلى سطح العمارة، خوفاً من مواجهة حقيقة أن وجودهم بلا هدف بعد أن جعلوا العمل غاية لوجودهم. فارغون، يردّدون تراتيل الخواء.
كان الناس يتدافعون في منعطف الشارع، سيدة متعجرفة في مشيتها تجر كلباً يكاد لا يبين منه إلاّ ذيل يلعب يمنة ويسرة، سيارة فارهة تدهس شيخاً فقير الثياب، أثار ذلك انتباهها، ارتعبت عميقاً كأن العجلات فرمت أضلعها هي، أشعلت سيجارة أخرى وأسهبت في اللوحة بدون اكتراث..
تحلّق الناس حول الجثة ثم انفضوا، ليبقى العجوز مُسَجّىً على قارعة الطريق، ورقة دفتر قديم مرمية…
السيجارة في تركيبها بسيطة جدّاً، لكنها عندما تحترق تفتح مجالاً للتأمّل، لفتها بين أصابعها الرقيقة في خمول وتثاقل، تأملتها قليلاً ثمّ تأمّلت النفاث على الأرض الباردة، كانت حافية إلاّ من ضماد في القدم اليسرى تتخلله بقعة حمراء كبيرة، لم يبق في السيجارة إلاّ حريق دائري صغير على شكل خاتم ملتهب، فكّرت أنها مثل السيجارة تحترق على مهل، ثم تنتهي، وذلك الإله المتخفي الذي يحركها مثل الكراكيز هو المدخّن الشره الذي يستهلك جسدها وكيانها مثل اللفافة، إحساس بانفلاث الذات وانعدام الإرادة، “يا له من ثقل أن أكون أنا”، قالت لنفسها، ونسمات الشتاء البارد تداعب خصلات شعرها القليلة.
فركت أعقاب السجائر التي أمطرت أرض السطح، فركتها بكعب القدم الحافية ولم تشعر بأي ألم، كان البرد قارساً وأطراف قدميها زرقاء بحيث تتبدّى الشرايين ممتلئة بسائل أشبه بالمداد، أحست بمرارة آخر ما تبقى من السيجارة الأخيرة، وصلت إلى حدود الفيلتر البرتقالي، لونه يشبه البرتقال، رمقته، انطفأ فأشعلته، دخّنته رغم المرارة وكثافة الدخان الأسود الخانقة، أرادت أن تفعل شيئاً لا يخطر ببال القدر، تلك اليد، الطاقة الهائلة التي تشعل سجائرها، جسدها، والتي تحدد لها ساعات النوم وساعات البكاء، امتلأت حنجرتها بضجيج الدخان، التصق الدخان بفتحة الحلق كأنها مدخنة قديمة، تلمّظت فظاعة السم الأسود، ثم بصقت نحو الأسفل.