إفادة
إفادة
الإثنين 07 مايو 2018 - 11:15

قصّة قصيرة: الإنْسَان السَّمَكَة (2)

في الشارع الرئيس، كانت روائح الطهي السريع، وسوق البهارات، ورائحة الناس والقطرات المطرية التي بدأت تنسل من بين سواد الغيوم تفغم أنفه، والرتابة التي تنسلّ في كل زاوية ومكان تخترق كيانه، ولم يعد يتخيل الأشياء المفرحة بالتدريج، في الماضي كان يمر من السوق القديم، ويتخيل أشكالاً كثيرة وكائنات شبيهة بشخصيات ميازاكي الخرافية، سلاحف حمراء وضفادع ترتدي بدلات الطهي وطفلات صغيرات ساحرات وبائعو المساحيق الخرافية التي تحول الإنسان إلى حشرة…الآن لم يعد يتخيل سوى أسماك كبيرة ترتدي بدلات رسمية، يوما بعد يوم، تضيق زاوية الحياة في المدينة، وساعات الشرود أمام الشريط  الحديدي الفضّي تزداد بالتدريج. لقد فاجأه رئيس العمال شارداً، وحدثه لمدة دقيقة كاملة، لكنه لم يجب، كان يوم الثلاثاء، اليوم نفسه الذي توفيت فيه امرأة عجوز ويداها مغروستان في أحشاء سمكة، وعندما بدأ الرئيس بالصراخ كان قد نزع البدلة البيضاء ورماها في وجهه دون أن ينبس بكلمة، ثم  انساب خلف الحائط الرمادي الكبير للمصنع، مرددا في سريرته، “يا له من جدار !”. لكنه لم يندم لأنه لم يشتم رئيس العمال، لقد كانت فرصة مواتية، “ضيعتُ عشرين ثانية من المجد خلال عشرة أعوام” قال لنفسه ثم تابع الطريق.

عند الساعة الثالثة مساءً استفاق من النّوم، رائحة الخميرة في فمه والغرفة صغيرة ومغلقة، كان يضع غطاءً شتويا كاملاً على النافذة كي تعتّم الجو، وقربه مشغل الأقراص لازال يشغل مقطعاً لعازف ياباني مغمور، تناول بعض السمك المصبّر مع الخبز وما تبقى في علبة العصير وهو يردّد في داخله: “أيها السّمك اللعين !”، كان مرتاحاً تماماً، تحسّس أضلعه: “إنها مستقيمة !”، تثاءب ومطّط جسده في كسل وخمول، شعر بخدر لذيذ  يمر عبر أصابعه إلى الذراعين إلى الظهر إلى أسفل القدمين، ثم أزاح الغطاء من على النافذة، كانت الغرفة الصغيرة التي يسكنها تطل على شارع كبير وشاسع، وها هي الأمطار تغسل جنبات الشارع غسلاً، ويكاد الظلام يخيم باكراً على المدينة، راقب المارّة لمدة نصف ساعة، وبدا له البحر بعيداً وهائجاً، ورائحته تأتي من النافذة وتختلط مع رائحة السجائر والسمك، لقد شعر لأوّل مرّة أنّه حي في خليط الغرفة النتن، وابتسم طويلا أمام المرآة المتشظية قبل أن يرتدي معطفه الأزرق الداكن وقبعته ويغادر الغرفة.
مرّ (ياء) بحانة الحاج أحمد حاملاً كيس تفاح سلمه لعائشة، وضعته تحت “الكونطوار” وشدّت على يديه فيما يشبه الرجاء، ثم عادت إلى الزبائن وتركته رفقة زجاجات البيرة والسجائر، كان التلفاز الصغير أعلى المصطبة يعرض إشهاراً لسمك التونة المصبرة، يضاف إليه ذلك التفصيل المهم جدا: “بالسّلَطة”، “سمك التونة بالسّلَطة”، وفجأة تذكر “سينما اللوتس”، فقد كان كيفن كوستنر من يقدم الإشهار السّخيف، هل يمكن أن تعرض سينما “اللوتس” شريط “الرقص مع الذئاب” بعد أن قام كوستنر بهذا العمل البذيء؟، انسلّ دون إثارة انتباه الساقية وأسلم ساقيه للرصيف، سيمر عبر الطريق الكبير في وسط المدينة على الساعة الرابعة مساء، إنه أمر مهم وتاريخي، لم يمر أبداً من ذلك الشارع في ذلك الوقت منذ سنوات، فغالباً ما يكون في العمل، هل بدت الوجوه مختلفة وغير متشابهة؟
كان خفيف الخطو على الرصيف، وتابع أضواء المحلات التجارية وهي تبدأ بالإفلات من زجاج العرض، عوّضت روائح العطر الرخيص والقهوة والبنزين المحترق رائحة السمك، بدأ يتخلص تدريجيّاً من سمكيّته، أحسّ بأنّه الآن مختلف عن ذاته قبل عشر سنوات، تخيّل نفسه يقف على حافة الشاطئ ثم يرتمي في الماء ويتحوّل إلى سمكة حيّة… ولكن ماذا سيأكل وكيف سيدفع فواتير الماء والكهرباء والأكل والشّراب؟ تذكّر أنه يملك الغرفة وابتسم، سيجد شيئاً ليفعله، ربما يسمع كلام عائشة التي توسطت له عند “الحاج أحمد” ليعمل في سياقة شاحنة نقل الشراب ذات المبرد الصغير، سيسوق الشاحنة  الصغيرة بضع مرات فقط ويبقى حرّاً طوال اليوم، ثم إنّ بإمكانه تشغيل شريط الموسيقى التي يريد أثناء السياقة، كانت أقدامه تثب في سرعة وخفة، ويسري في جسده دفء لذيذ رغم برودة الجو، لقد بدت له الشمس من بين كتلة الغيوم السوداء الكثيفة، كانت الشمس تحتضر أيضاً، ولكن لديه الوقت الكافي ليذهب إلى البحر ولو ليلاً، يمكنه أن يذهب في أي وقت آخر، صباحا مثلاً، ثم مساء، ثم يكرر الأمر في أي وقت، يمكنه أن يتناول وجبة الغذاء أمام البحر، ولن تكون سمكا مُصبّراً !
حين وصل أمام صالة السينما، كان الملصق الكبير يعرض صورة لشيخ عجوز  يصارع سمكة في خضم البحر، لم يشاهد أبداً شريطاً سينمائيا عن “الشيخ والبحر”، إنها المرّة الأولى، سيتم عرض الشريط على الساعة السابعة ولن يكون متعباً ولا نائماً. تلمّظ بقايا المرارة اللذيذة في شفافه مردّدا: “سأشاهدك أيتها السمكة من بعيد، من آخر كرسي في القاعة”، لكنه قبل ذلك وجد قدميه  تسيران نحو البحر دون أن يشعر وتخيل فم عائشة الدبق وهو يندحر أمام فتحات الغلاصم الكبيرة.

التعاليق

اكتب تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

المزيد من ثقافة وفنون

تلفزيون الموقع

تابع إفادة على:

تحميل التطبيق