السبت ٠٧ دجنبر ٢٠٢٤

قصة قصيرة: موتٌ وولادة

الثلاثاء 4 ديسمبر 17:12
16646

صورةُ المُنحدر من الطبقة المهمّشة على المِحك، وصار يتمنّى ألاَّ تُدير الحياةُ وجهها عنه. كان خالد يخرجُ في الرابعةِ صباحاً بتثاقلٍ شديد متوجهاً نحو سوق الجملة، طلباً للرزق، يعملُ باجتهاد من أجل حصدِ ما ينيفُ عن المائة درهم، وكلُّه أملٌ في العودةِ إلى المنزل قبل منتصف النَّهار، لا يعود إلاَّ بعد أنْ يحسَّ بتعبٍ شديد.
ذات صباحٍ وبينما خالد متوجِّهٌ إلى السوق كعادته، يمتطي دراجتهُ النَّارية، المتهالِكة، التي تتعطّلُ باستمرار. لم ينتبه لسيارةٍ من الحجم الكبير، تسيرُ بسرعةٍ فائقة، صدمته في لمح البصر، خالد أُغميَّ عليه، سقط أرضاً، والدم يسقطُ من وجهه، تماماً فوق عينيه.
للأسف، كان خالد هو المُعيلُ الوحيد لأسرته، كانَ جدار دعمٍ لهم، مانعاً لأي تسرُّب. حدثَ ما لم يكن في الحُسبان. نزلَ صاحبُ السيارة مسرعاً، خائفاً، التفت يمنةً ويسرة، تمنّى لو كان ثقبٌ في السماء يصعدُ منه ولا يراهُ أحد. ولأنَّ الظلام لازال يخيَّمْ، أبعدَ خالد ودراجته من أمامه بصعوبة كبيرة. ثم فرَّ إلى وجهةٍ لا يعلمها إلاَّ الله.
الألم الممضِ، اخترق جسد خالد، كوحش كاسر مسموم، لا يرحم. صرخَ خالد المسكين، صرخةً يُفزعُ لها من في القبور. كاد يُفارق الحياة بشكلٍ أبدي. خالد هذا هو مجرّد أُنموذج لشبابٍ يسعون وراء رزقهم بشكلٍ لائق، ولكنهم يعانون في بلدٍ لا يعتنِ بأبنائه بتاتاً.
بدأت أشعة الشمس تظهر، وعليلٌ من نسماتِ هواءٍ يعلو الأفق. خالد لازال أرضاً، بدأ النّاسُ يتجمهرون حوله، سيارةُ الإسعاف تأخرت كثيراً، إنه جدارٌ من الإسمنت كُتِبَ له ميلادٌ جديد، تألّم كثيراً، ولكنَّه لازال حياً. بعد انتظارٍ طويل، حضرت سيارة الإسعاف. حمداً لله على سلامتك أيتها السيارة التي كانت غائبةً، تائهةً في سفرٍ بعيد.
أرادوا التأكُّد من هويته، وجدوا محفظته الصغيرة تضمُّ بطاقته الوطنية المتآكلة، التي أكل منها الزمن. حملوه إلى السيارة، وأخذوه إلى المُستشفى، هناك سينعم بالعناية الفائقة، لا، بل سيبقى مرمياً فوق سرير ملطخٍ بالدماء والأوساخ، ورائحةٌ كريهة تُغطّي المكان، المهم أنهم نسوهُ هناك، رموه. 
جاءت أمه وزوجتهُ وابنته يسألنَ عنه، طلبوا من الممرضة أن تخبِر الطبيب بحضوره عاجلاً، لم يحضر إنَّه في عطلة، ربما يقضيها منتعِشاً فوق رمال أجمل الشواطئ العالمية، ربما جزر اليونان، جزر المالديف، أو في إحدى الدول الإسكندنافيّة، لا أحد يدري. وخالد المسكين مرميٌّ في مستشفى، إنَّه يحملُ اسم المستشفى لا غير.
خالد أُصيبَ بكسرٍ على مستوى اليدِ اليمنى، وكُسِرَتْ قدمهُ اليسرى، وجروحٌ بالغة في وجهه. إنَّه يعاني في وطنه، في وطنٍ لا يعرفُ معنى الحب، وتقديم الدفئ لأبنائه. لقد نجى من الموتِ بأُعجوبةٍ لا يتصورها العقل البشري.
سيعيش مأساةً كبيرة، لن يُفارق المنزل إلاَّ بعد مرورِ سنةٍ على الأقل، وسيقفُ بعكَّازٍ أو عُكَّازتين. حقًّا إنَّه الموتُ البطيء في أبهى تجلِّياته.
أدرك خالد أنَّ الحصول على دراهم معدودات صار أمراً صعباً للغاية، إذا ذهبت لعملك الغير المُؤمّن، حيث لا وجود فيه لوثائق التأمين، والتعويضات في حالِ المرض. وعدتَ مصاباً، فذلك أمرٌ يَخصُّك، لن تجد من يقفُ بجانبك سوى أسرتك.
لقد خاب ظنُّه في وطنه، لم يعد يُحبّه كالسابق. لم يعد قادراً على حَلْقِ ذقنه لوحده دون مساعدة ابنته أو زوجته. صار عبارة عن آلةٍ تعطلت، رميَّت بعد طولِ وسوء استخدام.

أضف تعليقك

المزيد من ثقافة وفنون

الخميس ١٦ أغسطس ٢٠١٨ - ٠٣:٤٦

“السينما الوثائقية في خدمة البعد الإفريقي” بزاكورة

الخميس ٠٨ أغسطس ٢٠١٩ - ٠١:٢٥

راغب علامة عضو في لجنة تحكيم “ذا فويس”

الخميس ٠١ فبراير ٢٠١٨ - ١١:٤٠

كان تستعد للمهرجان السينمائي بتوسعة شاطئ الريفيرا

الخميس ٠٦ سبتمبر ٢٠١٨ - ٠٤:٤٥

لأول مرة، روسي يصور فيلما بسرعة 96 لقطة في الثانية