قرية “سلك” التي تلتحف بضوء الشمس وتغتسل بلون الغروب تقتات على موروثها الأصيل الخالي من التزييف، تقع هذه القرية جنوب شرق مدينة بنغازي على بعد 98 كيلو متر. لم تسمح بمرور طامسي الهوية عليها و لم تفرط في نكهتها الليبية التي سقت جذورها الضاربة في أعماق أرضها… كانت لي زيارة لها في شهر رمضان الكريم عام 2016 برفقة الصديق محمد الفاخري أحد أبناء هذه القرية النبيلة… وكما أن لكل شيء سببا فقد كان سبب الزيارة الأساسي هو تصوير مقاطع للحياة القروية ولسيدة تقوم بتجهيز “خبز التنور الليبي” غير أنني ظلمت هذه القرية، عندما حددت طلبي فيها ومطلبي منها. سمة التواضع التي تزين قرية سلك أصرت على أن تفاجئني بالكثير وتجعلنى أخجل من عمق عطاياها دون اكتراث، لا بل كانت أكبر من أن يطالها تحديد أو احتواء.
عند اقتراب السيارة من هذه القرية العامرة، كانت أول الوجوه التي عانقتها عدستي سيدة ترعى الأغنام وتحمل بين يديها مغزلا تغزل به الصوف… السيدة الواثقة لم تحاصرها الريبة ولم تتسائل ولم تهرب من الكاميرا، بل أكملت عملها مع الترحاب والفرح المنطوق في عينيها، لتترجمه يداها التي رفعتها بالتهليل والإصرار على الضيافة.
يسكن في هذه القرية العامرة قبيلة الفواخر وهم رعاة إبل أباً عن جد… ولا ينفكون عن مغازلتها ومداعبتها في أشعارهم إذ يقولون (حوضك مليان بلا دعكان) (انتي ضمار واحنا سمار) (حوضك من الماء اتقول امراه) (هذا طبي لك من جدي).
هذه القرية خرج منها أول نائب في مجلس النواب سنه 1956 عبدالنبي الفاخري الملقب بـ (باوي) مما يدل على أن هذه القرية أنجبت قادة كان لهم وقعهم وأثرهم في قيادة البلاد التي أسست في تلك الفترة على الحب والسلام. ويوجد بها قبر الشهيد عبدالعاطي ملاس أول مجاهد يسقط طائرة حربية إيطالية ببندقية ألمانية والمعروفة بــ (الدقرة). كما أن هذه القرية الصغيرة في الحجم الكبيرة في العطاء حاربت الغزاة الطليان ودعمت المجاهدين في ذلك الوقت.
يعتمد أغلب سكان المنطقه على تربية الأغنام والإبل وقليل من الخيول. وزراعة الحبوب مثل القمح والشعير. تحتفل سلك بمواسم ثابتة لديها لم تتغير إلى الساعة وهو موسم الحرث والحصاد والجلامة والزر، ومن المؤكد أن الجميع يعرف معنى الحرث والحصاد والجلامة ولكن لا يعرف معنى الزر، وهو مصطلح للبادية أثناء حلب الضان فقط يكون في فصل الربيع حيث تحلب الضأن ومن ثمة يجمع الحليب و يترك حتي (يروب) ،وفى اليوم الثاني يقومون بمخضه في (الشكاوي) وتستخرج منه الزبدة، ويقومون بهذا العمل لمدة أسبوع. ويوم الجمعة يقومون بتذويبها أي بطبخها في قدر القمح حتى تتحول إلى سمن و يتم تصفيته ووضع التمر عليه ويقدمونه للضيوف و يسمونه (الذوبة). أما في الخريف… فيقوم أهالي القرية بتحويل اللبن إلى كشك ومالح… يأكلونه في فصل الشتاء لعدم وجود حليب في الضأن والماعز.
يوجد في قرية سلك قصور قديمة تسمى قصور الجحاوات و قصر الكرداس وجوف اردون، كما يوجد في ساونو التى هي أرض للفواخر أيضا عدد ثمان سواني للمياه لسقاية الإبل والغنم. ويصل طول السانية منها إلى حوالي 70 قامة، والقامة أداة يستعملها البدو للحساب وتعادل متراً وربع المتر طولاً. أي أن عمق السانية يصل تقريبا إلى 100 متر… ولكل بيت من بيوت الفواخر منهل خاص به.
واذا ما تحدثنا عن الشعر والشعراء فإن لهذه القرية فحولا في الشعر ونذكر منهم.. حسن لقطع. خالد ارمله وبوجلاوي وبوسوكايه وجلغاف بوشعراية… اما المرأة في تلك القرية البسيطة فإنها تعامل بمنتهى الاحترام و التقديس وعدم النظر إليها على انها كأئن يجب حبسه وطمسه بل تعودت المرأة في سلك أن تكون جنبا إلى جنب مع الرجل والدليل عنوان المقال الذي قررت أن أضعه تاجا على هذه المقطوعة وهو يثبت تباهي الأب بأنه ترك لابنته ملكاً في أرض الأجداد يكون لها ذخرا وعونا على الزمان. فهولاء لا يقولون… للزمان (ارجع يا زمان) لأن الزمان غير قادر على تغييرهم فهم من يشكلون الأيام بألوان الحب والسلام بانسياب مع احتساب لله وحده.
أضف تعليقك