إفادة الإثنين 21 مايو 2018 - 12:45

فَنّ الرّوايَة

لقَد عرّف هيجل الرواية، علَى عهدِه، بأنّها “ملحمةٌ حديثة بورجوازيّة، تُعبّر عن الخلاف القائِم بينَ القصيدة الغزليّة، ونشر العلاقات الاجتماعيّة”. “إنّها تأمّل شاعري في الوجود”، على حدّ قول  ميلان كونديرا في كتابة “فنّ الرواية”، أمّا عبد الرحمن منيف، فيقُول: “الرّواية كما أفهَمُها، وكما أكتُبها، أداةٌ جميلة للمعرفة والمتعة، ولكنّها المَعرفة الجميلة إذا صحّ التعبير. إنّها تجعلنا أكثر إدراكاً وأكثر حساسية بكل ما حولنا، وقد تقُول لنا، في السياق، أشياء عديدة يجدُر بنَا معرفتها أو تذكرها”، أو كما قال هيرمان بروخ: “اِكتشاف ما يُمكن للرواية دُون سواها أن تكتشفه، هو ذا ما يُؤلّف مبرّر وجود الرواية”. في حين نجد أندري جيد يقول “إنّ التاريخ رواية واقِع، والرواية تاريخٌ متوقّع”.

قطعت الرواية، منذ تكوّنها الأوّل في بذرة الملحمة، أشواطاً طويلة إلى حدّ الآن، غير أنّ أوّل رواية، بالمعنى الفنيّ، عكست مِزاج مرحلة تاريخية برُمّتها هي رواية “دون كيخوت” للكاتب الإسباني ميغيل دي سرفانتس، والتي قدّمت عصر الفروسية الآيلة إلى الضمُور برُؤية سَاخرة، وأطاحت، دفعةً واحدة، بهذا اللّون من الأدب (رواية الفروسيّة)، واضعةً الأسس الأولى لروايةٍ بطلها فردٌ يخرج من بيته ومحيطه متمرداً وحالماً بالتغيير. رجل وحيد يُكافح بعناد على ناصية الحُلم والرغبة المحمُومة في نقل اِستيهاماته إلى الواقع.
   كان روائي القرن الثامن عشر حريصاً على منح قارئه الطمأنينة واليقين، لكن مع ستندال وفيودور دستويفسكي في القرن التاسع عشر، ومن ثمّ مع كتّاب القرن العشرين الكبار صار هاجسُ الكاتب الروائي أن يشرِك قارئهُ في قلقِ الوجود. هذا القارئ الذي كلّمَا اِنتهى من قراءة رواية جديدة تتشعّبُ في دواخله الأسئلة والشكوك. ليُدرك أنّ الحياة أكثر تعقيداً مما يتصوّره.
     إنّ رِواية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر هي وليدة  النزعة الإنسانية، تلك الرواية التي كان يكتُبها روائِي يعتقد أنّه يفهَم الإنسان وإشكالياته، ويفهم العالم، بيدَ أنّ رواية القرن العشرين (جيمس جويس، فرجينيا وولف، ويليام فوكنر، صامويل بيكيت، غرييه، كلود سيمون، أونداتشي، ساراماغو، توني موريسون، وغيرهم) هي محصّلة النزعة النقديّة التي رأت أنّه لا شيء، بعد الآن، محصّن أمام إعادة القراءة، وإعادة التقويم، وضرورة الهدم وإعادة البناء. ولذا نجد أنّ أفضَل الروايات التي كتبت منذ القرن الثامن عشر، وحتّى يومنا هذا كانت تُصوّر شخصيات مغتربة، منفية، مطاردة، أو متمردة، غير مقتنعة، أو خارجة عن المألوف، تبحثُ عن أشياء لا تعرف ما هيّ. عن الزمن الضائع، ربّما، أو عن “غودو” الذي لن يأتي. 
   ومن ثم فقد تشظّى الزمن الروائي، وأظهرت الرواية ذلك الجزء اللاّمنطقي واللاّمعقول من المغامرة الإنسانية، وذلك الغموض الذي يغلّف الذات الإنسانية وإشكالية علاقتها مع الكون والوجود. إنّ روايات من قبيل (المحاكمة) و(القصر) لكافكا، (الصخب والعنف) لفوكنر، (ذئب البراري) لهرمان هسه، (الشيخ والبحر) لإرنست همنغواي،  تكشف وتُعرّي البطولة المجهضة لإنسان القرن العشرين وتفضَح عجزه ومحدوديّة قُدراته ومأزقه في هذا العالم، على الرّغم من صلابة إرادته وحدّة وعيه، ومحاولاته المتكررة من أجل الإمسـاك بالمعنى، والتحكّم بإمكانات الأشياء. فالروائي، كما  يقول كُونديرا، لا يصنعُ موضوعاً عظيماً من أفكاره. إنّه مُستكشف يتلمّسُ طريقه بجهدٍ ليكشفَ بعض جوانب الوجود المجهولة.
 أمّا رواية القرن الواحد والعشرين فقد أضحَت مثقّفة أكثر، مترعة بالمعارف، متشربة في جنباتهَا بأفكار ومفاهيم ونظريات من علم النفس وعلم الاِجتماع والتاريخ والطب والكيمياء والفيزياء. وحين تقرأ رواية من هذا القبيل تستطيع أن تتلمّس داخلها بصمات مفكرين من أمثال ماركس أو فرويد أو فوكو أو إدوارد سعيد أو آينشتاين، وشذرات من الكيمياء العضوية أو هندسة الجينات أو علم الفلك، وغيرها. وهذا الوضعُ لا يقتصرُ على رواية الخيال العلمي وحدها بل يمكنُ تعميم القول نفسه على روايات أُخرى ذات صبغة اِجتماعية استفادت من تقنيات العلم في أشكالها وأساليبها، وتعاملت مع المادة العلمية، أو مع بعض جوانب الحياة بمنظور علمِي.
إلاّ أن ميلان كونديرا يكاشفُنا في مؤلّفه “فن الرواية” بوجهة نظر أخرى، فحسب تصوّره فإنّ الرواية سائرة على دربِ الموت، و”ليس موتُ الرواية إذا فكرة وهميّة، فقد تمّ حدوثه. ونحن نعلم اليوم كيف تموت الرواية: إنّها لا تختفي؛ بل يتوقّف تاريخها: لا يبقى بعدها إلاّ زمن التكرار الذي تُعيد فيه الرواية إنتاج شكل مفرغ من روحه. إنّه إذاً موت مكتُوم يمرّ دون أن يُرى و دون أن يصدم أحداً “. هكذا، لم يعد من داعٍ لوجود الرواية، ذلك  أنّ السبب الوحيد لوجُودها هوّ أن تقول شيئاً لا يمكن أن تقوله سوى الرواية، وهي ما عادت تقولُ شيئاً، حسب كونديرا، بل تكرّر رجع الصدى، فقط.

التعاليق

المزيد من ثقافة وفنون

تلفزيون الموقع

تابع إفادة على:

تحميل التطبيق