إفادة
إفادة
الأربعاء 01 أغسطس 2018 - 10:45

في الحَاجة إلى السخريّة

 محمد البوعيّادي

الوُجود مُفَاجأة ثقيلة، لكنّه مادة قابلة للسخرية.
توجد في جينات الإنسان الثقافية صفة قتل المرح، بحكم أنّ كل تاريخ الوعي كان محاولات جادة للتفسير الملائم للحقيقة، حقيقة كلّ شيء ! والمثير في الأمر أنّ كل تاريخ العلم والمعرفة الفلسفية والدينية والأسطورية لم يجب عن الأسئلة الكبرى، منذ لحظات الكتابة الأولى إلى عصر النانوتكنولوجيا وفلسفة التفكيك اِستطاع الجنس البشري أن يقوم بتفسير كمي لمعظم مظاهر الطبيعة، واستخدم بعضها بجدية مبالغ فيها، فصنع علاج الكوليرا والقنابل النووية على حدّ سواء. لكنه – قطعاً – لم يجب عن سؤال المعنى، وبقدر ما يبدو هذا الزعم مبالغا فيه “فلسفيا” أكثر من كونه “رياضيّاً”، فلا أحد تقريباً يستطيع إثبات العكس، لا بمعادلة ولا بفرضية..، لم تجب المعرفة الجادة على أسئلة المصير والمبتدإ والسيرورة، بقدر ما أجابت عن جزئيات واستخلصت التقنية من خامة الطبيعة والإنسان، في حين تلاعبت الأديان بالألفاظ وصنعت تماثيل ساخرة للحقيقة، لكن مع منع الجمهور من الضحك ! بسلطة الخطاب وسلطة المقدس.
هل ننظر إلى العالم بالجدية الصارمة الكافية لتحليله وتحويله؟ نعم … هل ذلك ضروري؟ هذا السؤال يقبل إجابتين في تصوّري:
–   يحتاج العالم بصفته الكمومية إلى تفسير منطقي جاد. ليستمر التراكم المعرفي (رغم لاجدواه إلاّ من باب الفضول وإطالة تجربة المعيش بدون هدف ميتا-بيولوجي !).
–  العلاقات الإنسانية والسياسة والاعتقاد والحب والموت والعواطف والانفعالات الحيوانية ليست معطيات كمومية، لذلك لا ينطبق عليها المنهج الصارم للعلم بالضرورة.
في الشق الثاني من الجواب يتموقع كبار الساخرين من البشرية، شابلن وكليمنس (مارك توين) وكارلين وبرنارد شو ونيتشه وسقراط  وسينيكا وابن الراوندي والجاحظ وتوماس برنهارد والمعري..إلخ  وربما حتى الأنبياء. لا أستطيع أن أتصور كل نصائح وتشريعات الأخلاقيين الكبار واللاهوتيين والفلافسة والأنبياء وكبار المربين عبر التاريخ سوى سخرية باطنية مغلفة بالاحترام، ربما استلقى كبار الأنبياء على ظهورهم من الضحك بعد الاختلاء بأنفسهم، مخلّفين وراءهم قطعاناً كبيرة من الخرفان تصدّق أيّ شيء، أتخيل المسيح منفرداً في غرفته بعد أن صدّقوا أنه ابن مادي لفرضية تجريدية، أو ملامح محمد بعد أن اعتقد محاربوه أنّ كائنات خيالية قاتلت إلى جانبهم في معركة بشرية !
من منظور النشاط الإنساني، والممارسات الإنسانية بشكل عام تصير الجدية شيئاً سلبيّاً، فهي في النهاية لا تفرز شيئاً مفيداً لتجربة الإنسان القصيرة في العيش، بقدر ما تعذّبه نفسيّاً أكثر من أي شيء آخر.
الجدية في الاعتقاد مثلاً، واحدة من أسوء خصال الإنسان عبر التاريخ، فأخذ مقترحات الآخرين بصورة مبالغ فيها من الصرامة لمجرد كونهم وصفوها بـ “الحقيقة” ولمجرد أنها تصورات “قديمة” معطى حوّل مواضيع كانت لتكون مواضيع نكت مترجمة بين الشعوب إلى مواضيع اقتتال وتزاحم، فلم يكن أحد ليسمع بنظريات سخيفة مثل “صراع الحضارات” لو لم تأخذ مَضحكات الأنبياء على محمل الجد في زمن بعيد. لقد افتقد أجداد البشرية إلى حسّ الفكاهة  وجعلوا من النكت كتباً مقدّسة، ثم في مشهد سريالي لا يستطيع أحد فهمه، تحوّلت النكت إلى برك لا تنضب من الدماء والبراكين الشعورية الملآى بالغضب والقردانية المجانية.
أما الجديّة في الحب فموضوع يمكننا مقاربته من خلال أسخف قصة عرفتها البشرية المعاصرة، قصة تيتانيك، “مضرطةُ ولها نغم” على حد تعبير مظفّر، أو بتأويل سلافوي جيجيك: قصة عاهرة برجوازية استغلت سذاجة شاب من الطبقة الفقيرة. في مشهد يثير الضحك يقرّر شاب أن يموت بالبرد عوض أن يصعد فوق لوح الجليد، حيث كان اللوح يتسع لاثنين بل لثلاثة. أمّا روميو، وإن كانت المسرحية وليدة خيال خلاّق، فكان بمقدوره أن يسرق قبلات وينصرف، في حين كان بمقدور قيس، الخيالي هو الآخر، لكن الدّال واقعيّاً، أن يستدرج ليلى إلى أي موقع من الفلوات والخلاء الذي عاش فيه ويتبادلا السوائل بكلّ نشوة ثم يعودان خفية إلى الخيام وتربية الماعز دون تشهير ولا دراما مبالغ فيها، وقد تصوّر أحد النقاد الكلاسيكيين أن تلك القصة لو انتهت بالزواج، لتقاتل الزوجان حول تفاهات الحياة اليومية من طعام وملبس وغيرة وكل تلك الأشياء ورائحة البصل تفوح من ليلى في حين، يمكنني أن أضيف، ورائحة الغنم تفوح من قيس…
من منّا لم يمر بالثالوث الساخر في الحب؟  النشوة المسكينة لنزعة كلبية في التنازل ومذلة تأنيث الذكورة، ثم الصدمة المُضحكة التي ينظر إليها صاحبها كحادثة تشرنوبيل، ثم فقدان الحس والدخول في صراع نفسي سيكولوجي حول أتفه الأشياء، بسبب تجربة فاشلة كان من المُجدي أن تُعاش كتجربة خصبة مليئة بالنكت والاستعداد لقول وداعاً ومرحباً في أي وقت.
أما جدّية المواقف الاجتماعية التي تدُور في فلك الاختلاف والتغاير والتنافر أحياناً، حول الإرث والممتلكات والعمل والثروة المادية، فمردّها إلى القرد البيولوجي الذي يتقاسمنا مع الراهب المنافق، والذي في نهاية التحليل يمكنه العيش في ظروف بسيطة، يتوفر فيها الحد الأدنى من الحاجيات الطبيعية دون تهويل فعل الامتلاك إلى تلك الدرجة.
يظل إذا أن الخوف من الموت واحد من أهم أسباب النزعة الجدية في النظر للعقائد والأفكار والعلاقات وتجربة الحياة في المُجمل، ولعل السينيكيين والرواقيين عموما، وعلى رأسهم أبيقور ومارك أوريل، وجدوا مخرجا مُسلّيا يعرفه الجميع تقريبا : “حين يوجد الموت لا أوجد وحين أوجد أنا لا يوجد الموت”، لذلك لا معنى لأن نخاف، ومن ثمة نصبح جديين وواقعيين ونرفع شوكاتنا كالعقارب ضد الجميع. من أفظع مظاهر الجدية في مواجهة الموت، استنساخ الطقوس الجنائزية في كل المجتمعات، العويل والنواح على جسد سيبقى فيه عظم المؤخرة فقط، ثم سيتحول لنبتة تأكلها معزة أو كومة من التراب يبول فوقها كلب رافعاً رجله وذيله.
 بيد أن نيتشه  قال بالحرف لأخته: حين أموت لا تتركي قسا يتلو عليّ ترّهاته في وقت لا أستطيع فيه الدفاع عن نفسي. هذه الإجابة المسلّية لم تكن ممكنة لولا الثقة الأكيدة في سخرية العقائد نفسها وسخرية الحب، بعد الفشل الشهير مع لو سالومي الذي حوّله نيتشه إلى بكائيات مهجورة في أوّل كتبه، ثم إلى سخرية وتجاوز طريف في كتبه المتأخرة، ولعل ذلك الروائي الألماني وضع سخرية نيتشه في سياقها العام حين وصف مشهد مضاجعته لعاهرة قالت تحت تأثير النشوة:
–   يا إلهي.
فأجابها نيتشه غاضبا:
–  “استكتي، فالله قد مات”.
لم يكن بمقدوره أن يسخر من موته لولا سخريته من نفسه ومن تاريخ الإنسان ومعتقداته الكبرى. إن السخرية في هذا المقام هي الحرية، تحرّر لامشروط من بدائية الانفعالات البيولوجية، السخرية علامة ثقافية، لكنها ثقافة مضادة …
في نكتة شعبية مغربية، يستعد رجل فقير للموت، ثم يطلب من ابنه أن يحضر له سكينا من المطبخ، وقبل الموت بلحظات يقطع خصيته ويمنحها لأبنائه فيتعجبون ويسألونه لماذا؟ يجيب: كي لا تقولوا أنني لم أترك لكم إرثاً بعد موتي (يفهم المغاربة هذه العبارة على النحو التالي: كي لا تقولوا أني لم أترك لكم ولا خصية).
إن المخيال الشعبي أحياناً يتفوّق على المخيال الأكاديمي، في تدفقه التلقائي مع الحياة، وهنا محط أنظار المتشائمين الساخرين، أمثال شوبنهاور الذي سخر كثيراً من هيغل، ومن نزعته السريالية في خلق مفاهيم لا يفهمها أحد ليسمى “عميقا”، ونيتشه الذي وصف بلزاك بأنه يمتلك مؤخرة كبيرة ومُفلطحة، لأنه يفكر وهو جالس على الكرسي..(أفول الأصنام)، حيث تنزل المعرفة إلى الواقع، لا لتقاربه وفق تصورات جافة بل لتحاوره، والسخرية طريقة في الحوار والفهم والتجاوز قلة فقط من فهموها وجعلوها طريقة عيش ووسيلة مواجهة قساوة العالم والأشياء.
قد تنبعث السخرية عن ذات جريحة أحياناً، وفي غالب  الأحيان يكون الساخر شخصا متشائما ومتألما، على الأقل كما يخبرنا تاريخ الأفكار وتاريخ الفلسفة، فديوجين الكلبي حين أخبر الإسكندر بأن ينزاح عن مسار الشمس لأنه يحجبها عنه وهو مستلق على التراب، كان يعاني من الفقر، لكن لإدراكه أن أموال الإسكندر وعطاياه لن تغير شيئاً من ذاته التي تربّت على التخلّي وامتلاك القليل، سخر منه ومن فكرة الامتلاك، كيف ينخدع بمنحة مالية وهو الذي كان يستمني على قارعة الطريق، في مشهد ساخر، ليعرف الناس “من هو”…
وقد تنبعث السخرية عن ذات فهمت طبيعة الأشياء، والذات العدمية ربما تمثل نموذج الذات القادرة على السخرية، عكس ما يتصوره البسطاء حين يمزجون بين الكآبة والاكتئاب وبين العبثية والعدمية، متصورين أن العدمي يقوم بوظيفة المرأة التي تندب في الجنائز المصرية. بيد أن البحث في الحياة الشخصية للذين لم يؤمنوا بالمعنى والإنجابية والسياسة والاستمرار، يعلن عن حس فكاهي منقطع النظير، وعن سخرية أصيلة متجذرة في نصوصهم، إذ لا يستطيع من يؤمن بالأفكار الكبرى: الحقيقة، الله، التاريخ، الحزب، المعنى ..أن يتذوق السخرية ولا أن يكون ساخراً.
قد تكون السخرية فاشلة، مثل نكتي التي تجعل الآخرين يضحكون عليّ لا على مضمونها، لكن على المرء أن يحاول الانفلات من سطوة النزعة الجدية التافهة، والتي لا تقدم شيئاً لتجربة الإنسان في الحياة، في حين تشكل السخرية مرهما ضروريا لحروق العيش، وأحياناً ينجح الفاشلون في الضحك في صنع مشهد أو قول أو فكرة تضحك الذين لا يعرفون حقيقتهم في الواقع، أليس سخرية أن نعتقد أن أشد المؤمنين بالعقائد سعداء في حين لا يستطيعون الضحك على نكتة تمس عقائدهم ويتحولون إلى أطفال غاضبين؟ ..

التعاليق

المزيد من سياسات دولية

تلفزيون الموقع

تابع إفادة على:

تحميل التطبيق