
فريديريك دار: أيامي العصيبة (1)
قبل أزيد من عشر سنوات، قرأتُ كتاب (Je le jure) للكاتب الفرنسي فريديريك دار Frédéric DARD. وهو كتاب يتحدث فيه عن حياته منذ طفولته البائسة في مدينة ليون الفرنسية، إلى أن صار مليارديرا بفضل رواياته البوليسية، المنشورة باسمه المستعار: سان أنطونيو San-Antonio.
شدَّني الكتاب إليه شدّاً، وأعدتُ قراءته ثلاث مرات، ثم قررتُ أن أترجمه وأن أنشره على حلقات في جريدة الاتحاد الاشتراكي. وهكذا انكببتُ على ترجمته، وانتهيتُ منه في أربعة أشهر ونصف، ووضعت له عنوان ( أيامي العصيبة.)
ثم حدث أن انتقلت بعد ذلك مع أسرتي الصغيرة إلى سكن آخر، فضاعت مني الترجمة فيما ضاع، خلال عملية الرحيل، ولم أعثر لها على أثر. لم أكن يومها أشتغل بالحاسوب، وإنما كنت كائنا ورقيا خالصا، كما يقال.
وقد بحثت عن تلك الترجمة أياما عديدة في كل مكان، فلم أجدها، ثم يئست من العثور عليها ولا يريح الإنسانَ مثلُ اليأس!
واليوم – الأحد 15 يوليوز 2018- وأنا أرتب أشيائي وأتخلص من بعض ذكرياتي وكتبي وأوراقي القديمة، كما يروق لي أن أفعل بين حين وآخر، كدت أصرخ من الفرح بعد أن وجدتُ ( أيامي العصيبة) في علبة كرطونية قديمة.
وأود اليوم أن أتقاسم مع أصدقائي الفقرات الأولى من هذا الكتاب الآسر، على أن أنشر حلقاته تباعا، في مقبل الأيام.
****** ****** ******
(نص الترجمة)
لستُ سوى نتاجٍ لمجموعة من الحوادث والاصطدامات المتتالية. مجموعة من الارتطامات العنيفة، التي تَفرض عليك، في كل مرة، أن تصرف اهتمامك كله إلى الإنسان الذي ارتطمَ بك وأن تعرض عمن سواه.
ثمة أشخاصٌ كثيرون ساقتهم الأقدار باتجاهي، فانْقَذَفوا نحوي، وكان الاصطدام بيننا في غاية القوة. وقد بقيتُ أنظر إليهم وأحاول أن أفهم. والحق أن أولئك الأشخاص هم الذين جعلوني أتغير شيئا فشيئا. هم الذين جعلوا مني هذا الكائنَ المتمرد، المتأرجح بين اليأس والرجاء، والذي يغالب دموعَه تارة ويُغرق في الضحك تارة أخرى. أجلْ، إن المرء ليتفاعل باستمرار مع الآخرين ويَخضع لتأثيرهم. فهم مثل النيازك التي تَدور في السماء وتَدور، ثم تنهمر عليك تباعا وتُحدث في أعماقك الحفرة تلو الأخرى. تُرى، ماذا كنتُ سأَكُون لو أني بقيتُ في مأمن تام من تلك الاصطدامات المتتابعة؟
******
من بين الأشخاص الذين كان لهم تأثير حاسم في حياتي، هناك صديق اسمه ليون شارلي. فهو الذي علمني كيف أبكي! كان إنسانا متمردا ، غريبَ الأطوار، شديدَ الإقبال على الحياة. وقد أعطاني دروسا بليغة في اللامبالاة، وجعلني أستهين بالعديد من الأشياء، وأرفض الخضوع والانصياع لأي كان. ينبغي الاعتراف بأني كنتُ أملك الاستعداد الفطري لذلك. لكنْ حين تكُون فتى في السابعة عشرة من العمر، وتلتقي بالشخص الذي يَدفعك دفعاً في الاتجاه الذي سوف تَسقط فيه، فإن السقوط يتمّ بسرعة أكبر!
أذكر أني كنتُ برفقته ذات يوم، وكنت أحكي له عن أمر ما، لكنه رفض تصديقي. فقد كان مجبولا على الارتياب. وإذا هو أحس برعشة ما في صوتك، وأنت تتحدث إليه، أو بنبرة تشي بالارتباك ، فإنه يبادرك في الحين قائلا:
– أنتَ تكذب عليّ!
وكنت حين أجد نفسي في موقف كهذا أجهد نفسي كي أتدارك الموقف ، وأحاول أن أحيط بالفكرة من كل الجوانب، وأن أعبر عنها بالدقة المنشودة. ذلك أن الجهر بالحقيقة يتطلب منا، في الكثير من الأحيان، قدرا لا يستهان به من الشجاعة. وهذا واحد من الدروس الكبرى التي تعلمتها من ليون شارلي.
لكنه أصر على تكذيبي في ذلك اليوم. وبقي يردد قائلا:
– أنا لا أصدقك. إنك تكذب علي…
كنا نتمشى معا على الأقدام. كانت نظراته المرتابة تدمرني تدميراً. وقد بقينا على تلك الحال إلى أن بلغنا جسرا من جسور نهر السون. وعندئذ اقتربت منه وقلت له:
– اسمع جيدا يا ليون، إذا أنتَ لم تصدقني، فسوف أرتمي في السون .
فما كان منه إلا أن أجابني بحزم:
– أنا لا أصدقك!
وفي تلك اللحظة بالذات، وقفتُ على حافة الجسر، ثم ألقيت بنفسي في مياه النهر، أنا الذي لم أكن أعرف السباحة!