فاطمة كطار: رأسي يطير

لا أذكر الساعة التي لفظتنا فيها إحدى الحانات الليلية، ما أذكره أن “سمير” كان لا يستطيع حمل جثته المنهكة طويلا، كانت أول مرة يشرب فيها كثيرا، شرب بسخاء مبالغ فيه وبإصرار غير معهود. يمسك رأسه بيديه كطفل صغير وهو يضحك عاليا꞉ 
– رأسي يطير… إنه يرتفع…
أغلقُ فمه براحة كفي، فيعضني الملعون ككلب مسعور… أصرخ من ألم العضة ويصرخ:
– إنه يطييييييير…. يطييييييي…..ر 
شربت مثله أو أكثر، وثملت أيضا لكني كنت متماسكا، فلا “الويسكي” ولا “الروج” يستطيعان رفع هذا الرأس الثقيل، المليء بالفراغ من فوق هذا الجسد الرخو.. الجو بارد٬ لا أحد في الشارع، كل شيء عدا الريح ساكن. بحثت بعينيّ عن مكان أجلس فيه، مسحته وقرفصت، قلدني سمير وتكوم بجانبي مثل قط بائس ممسكاً رأسه الكبير وقد كانت به رغبة ملحة إلى مزيد من شرب “الويسكي” غير مهتم لبرودة الأرض من تحتنا، سألته:
– فيم تفكر؟
أجاب دون أن يفكر:
– نادية في رأسي ورأسي يطير… 
بدا لي أن “سمير” يتكلم بجدية، ضحكت:
 -هاد نادية عندك خفيفة دغيا طارت وطار الراس معاها 
بنبرة باكية يحاول كتمها:
– قولها لمك ما تقولهاش ليّا… 
لم أرد، سمير يتألم ويبكي، يتقيأ ما في أحشائه، يتقيأ “الويسكي” وكأنه يتقيأ “نادية” من رأسه وقلبه… أساعده على الوقوف، يدفعني بيديه، ويمسح فمه ومخاط أنفه بكميْ قميصه، يمسك رأسه من جديد ويدندن بصوت باك:
– ياللي مشا ما جا… تيري تيري… تيريريري 
أحس برغبة شديدة في مشاركته الغناء:
 -ياللي مشا ما جا… وخلاني فالغربة وحدي… تيري تيري… تيريريري 
يقف سمير مترنحاً وسط الطريق، يتمايل يمينا وشمالا، يبتعد قليلا، يتخلص من ملابسه، جميع ملابسه، يقف عارياً، جثته تتلاشى، يضرب بساقيه وذراعيه بقوة، يغني ويرقص:
– ياللي مشا ما جا…تيري تيري… تيريريري 
يسقط سمير على الأرض، أحاول مساعدته، يرفض:
 -خليني هنا… حتى تجي نادية… 
أسحبه من يده بشدة، نركض معا حتى نهاية الطريق، استلقيت على ظهري، فاستلقى سمير بجانبي، جف ريقنا، نغني ونلهث:
– ياللي مشا ما جا…تيري تيري… تيريريري 
أغمضت عينيّ لحظة لأسترد أنفاسي، أرى صوراً متموجة، غير واضحة الملامح، لا أستطيع الإمساك بها، سمير يغني بصوته المتهدج… رأسي الثقيل ينفصل شيئا فشيئا عن جسدي، أحاول الإمساك به، يرتفع… كلما اقتربت منه يرتفع أكثر، أحاول أن ألمس مكانه بيدي، لا أجد شيئا… فراغ مخيف… جسد لا ينتهي ليس له رأس… أصرخ… سمير يصرخ أيضاً… نصرخ معاً:
– رأسي يطييييييير…