السبت ٠٧ دجنبر ٢٠٢٤

فاطمة المرنيسي.. الباحثة التي فككت الحريم

الخميس 26 أكتوبر 10:10
8826

قبل أن ألتقيها، كنت أعرف أن نصها يطفح باللامتوقع. بدا اسمها، حين سمعته أول مرة، مألوفا؛ فالمرنيسي كان أيضا اسم صاحب المصنع الذي كان يشتغل فيه والدي قبل وفاته في مطلع السبعينيات، وكان هذا الاسم يتردد في بيتنا على نحو يتفوق على إدراكي. كان إخوتي الأكبر يرددونه في حالة أقرب إلى التباهي، كأنه جدٌّ أو عمٌّ أو خالٌ.
أفكر أحيانا أن فاطمة المرنيسي ربما كانت إحدى بنات صاحب المصنع الحكاءات، وأفكر أنها لم تكتب سوى لتذكرنا بالحياة الفاتنة التي رأتها تكبر خلف الجدران، وأنها لم تكن تكتب لتدين “الحريم”، بل كانت تحكي وتلتذ بما كانت تحكيه، وأن لديها العزيمة الكافية لفعل ذلك.
أول عمل قرأته للمرنيسي، بشكل كامل، هو “نساء على أجنحة الحلم”، وأدركت أن “النساء كن مشغولات باختراق الحدود، مهووسات بالعالم الموجود خارج الأسوار، يتوهمن أنفسهن طيلة النهار متجولات في طرق خيالية”. فهل كانت الكاتبة إحدى تلك النساء اللواتي ظللن يغزلن القيد حين كانت الأسوار ترتفع حول البيوت، وحول المدينة؟
في نظري، ليس هذا الكتاب مجرد سيرة ذاتية، بل عملا تخييليا منشغلا ببناء “رفض تفوق الذكور” و”خُلِق الجميع متساويين”. وهو الانشغال نفسه الذي رأيناه في كل كتابات فاطمة المرنيسي، منذ “الجنس كهندسة اجتماعية” و”العالم ليس حريما” و”سلطانات منسيات” و”الحريم السياسي”.. إلخ. فهذه الكاتبة الفذة لم تتفاد قط الحفر في ما يزعج، وكانت تدري أن «المرأة تركب مخاطر كبيرة حين تستعمل أجنحتها». لم تستعمل مظلة للوقاية من الرصاص، وكانت دائما بالمرصاد لما قد يصبح قيدا. 
كانت فاطمة المرنيسي تفهم جيدا ما معنى القيد، وما معنى الحجاب، وما معنى الحريم، وما معنى إصاخة السمع للعجائبي، وما يؤسس «سلطة الذكورة» من رموز وعلامات وأساطير وحكايات وسير شعبية.
لقد أدركت المرنيسي، منذ البريق الأول، أنها ممتلئة حتى آخرها بالأحلام والأمنيات، وأنها تفور بنزوع نحو تقمص الريش. وهكذا جاءت كتاباتها ثورة مهموسة وقوية على تلك القلعة التي تتوارى خلفها «نساء على أجنحة الحلم». كانت تكتب أفكارها ومشاعرها، كامرأة مثقفة وذكية، بأسلوب ساخر (أحيانا) يصلح لتقويض الإيديولوجيات الجاهزة. فكانت كتاباتها، تبعا لذلك، مشدودة إلى الدفاع والهجوم بلغة واضحة وميسرة، وغامرة بالتأمل والحكي وقوة الملاحظة والقراءة.
لم تستفز فاطمة المرنيسي الخصم، ولم تكن منشغلة بذلك، ما دام قد اكتشفت «هشاشة الرجال وخوفهم من الهجر، وأن ذلك هو سبب مغالاتهم في التحصين». الرجال مطاردون بكيد النساء. ألا يخبرهم القرآن بأن «كيدهن لعظيم»؟ هذا هو إطار التفكير العربي الذي كان يهدد شهرزاد. الرجل ليس حرا، وكل تصرفاته تتكئ على إحساسه القوي بالتهديد. وهذا تفكير غير مبهج. “لن يخطر ببالي قط أن أربطه بشيء مبهج”، كما تقول المرنيسي عن الحريم.
وأزعم أن فاطمة المرنيسي خرجت إلينا ناضجة كأنها لا تحتاج إلى تاريخ، وأنها معترك فكري منشق عن العادي. امرأة معتقة، ولا أظن أن أي حركة نسائية مغربية (أو عربية) لم تأكل من خبزها. وكثيرون، هنا وهنالك، لم ينتبهوا إلى أن لها جلدا آخر، وأن كل أفكارها تتولد كالشرارة، وأنها صيادة مفارقات صعبة، وأن تجيد وضع السؤال في الشرك، تماما كما استطاعت شهرزاد أن تضع “شهوة الرجل” في قمقم “الإمتاع والمؤانسة”؛ فشهرزاد ليست هي الحطب سريع الاحتراق، بل هي “المرأة الأعلى”، فعلا وصدقا، في التمثل العربي والإسلامي، بينما تمثل في نظر الغرب الجنس والتشهي والترميز العنيف للهيمنة الذكورية في المجتمع الشرقي. تقول المرنيسي إن مفهوم الحريم في الشرق “ارتبط بالتاريخ وفي قصور الخلفاء ومن يحيط بهم من علية القوم وهذا الحريم هو مفهوم مكاني وزماني محدد أي إنه محدد في مناطق وبقع محصورة في فترة زمنية محصورة، أما المرأة العربية الإسلامية خارج هذين الإطارين: الزمان والمكان، فإنها بنت وأخت وزوجة وأم تحظى بالرعاية والاحترام على الرغم من الفقر والفاقة في بعض الجوانب وأن مفهوم الحريم في الشرق هو مفهوم مغلق بالزمان والمكان”.
لقد فتحت فاطمة المرنيسي، على نحو غير مسبوق الباب على مصراعيه، بدون حذلقة أو أقنعة، لنلج نحن فضاء “الحريم”، ذلك الكيان المقصى والمهمش والمرموز الذي دارت حوله نصوص أدبية إيروتيكية تقدح الشهوات الحبيسة، لكنها أخفقت في تمثيل التراتب الثقافي داخل هذا الفضاء، ولم تجرؤ على الدخول في تفاصيله النفسية، وفي كشف نمط العلاقات السائدة فيه، وفي تأشير العلاقة المتكسرة بينه وبين العالم الخارجي الذي يحتل الرجل (الذكر) المركز الأساسي فيه.
تحدثت فاطمة المرنيسي عن الدين والجنس؛ وعن المرأة، وكانت صرخة فكرية قوية لتحريرها من مرتبة العبيد والجواري، ودافعت عن حق النساء في التعليم والعمل والسفر والتنقل بكل حرية خارج الحدود، وحاربت فكرة الحريم (حتى الغربي)، وتعدد الزوجات وملك اليمين، وغاصت عميقا في التراث لتجعل الرجل يشعر بخوفه. فالمرأة، في نهاية المطاف، ضحية خوف الرجل، كما تخبرنا الباحثة؛ وهذا ما وقفت عليه حين استضافتها كلية الأداب بنمسيك بالدار البيضاء في بداية التسعينيات، حين عاينت أن الظلام الأصولي الكثيف كان يخشاها، ولهذا لم يسمح لها بالكلام، ولا بلقاء الطلبة الذين كانوا يتأهبون لنقاش في غاية العمق والأصالة. كان الطلبة الإسلاميون يصرخون، بينما كانت “الأنوار” تبتعد بهدوء بخطوة عن ذلك الجنون. وكانت فاطمة المرنيسي تبتسم، وفي كامل لياقتها العلمية، تحاول أن تحاور “الزعماء الملتحين” بينما كانوا هم ينفذون مخطط المنع بالصراخ والتكبير والضجيج.
وفي 2004، دخلت بيتها بحي أكدال، وأنا أتابعها بقوة وانتظام وحرص، كعضو في حلقة بحث كانت من تأطيرها. جئت مع المناضلة فاطنة البيه وزوجها يوسف مداد، وهناك وجدنا أحمد ويحمان ومليكة ملاك ونور الدين سعودي ووفاء جسوس، وإحدى الأمريكيات لا أذكر اسمها بالضبط؛ كانت فاطمة المرنيسي محتشدة بالمودة والكرم، بقفطانها المزركش ومنديل رأسها وابتسامتها السائلة. وبكل غزارتها وتعقيداتها، بدأنا نناقش موضوع الاعتقال السياسي من زاوية “الضحية”، ثم من “زاوية” العائلة، فزاوية “الجلاد”. كان النقاش محتدما، وشاقا أحيانا، و”اختلافيا”. كنا وجها لوجه مع التجرية، ومع الاقتراب من مختلف الألوان والتصورات. وأذكر كيف كان الأخ ويحمان- هذا الجميل الذي أحبه- حادا في الدفاع عن “الفلسطينين”، وكيف انتفضت مليكة ملاك ضد إحدى القراءات التي تمجد “الهولوكست” اليهودي. ورغم أن العويل صار شديدا في عظامنا، كانت الرائعة فاطمة المرنيسي هادئة ومنصتة وقوية على هذا التمرد الذي يعتري النقاش. كنا نختلف لنتفق، وكنا نتفق لنختلف. وكانت تأخذ من هذا وذاك، وتسجل الملاحظات على السبورة، وكان المطر يهبط مع كل حركة من يدها..
تحدثنا طويلا عن عائلات المعتقلين، وعن النساء المعتقلات؛ وتحدثت عن “أم حفيظ” (فاطمة أمزيان)، تلك التي يعرفها أحمد ويحمان جيدا، وعن هؤلاء النساء الأمهات اللواتي رافقهن البوليس السري (أو الوقت) من معتقل إلى معتقل: فاطمة الرويسي، خديجة المنوزي (أم الحسين)، حبيبة التازي (أم مديدش)، الضاوية المشتري، ثريا السقاط.. وغيرهن.
كنا نكتب بقسوة ملحمية ذاك الشيء غير الصغير الذي عاشته الأمهات، وكانت المرنيسي تنضح بآبار من التواطؤ مع ما نكتبه، وهذا ما سجلته في كتابها “نساء في السجن: مساءات متقاطعة”.
وفي 2008، كان لدي موعد آخر معها بالمنزل نفسه بأكدال، ولم أكن أملك سوى أن أخجل من حضورها القوي، وصرنا نتجادل حول الحجاب، والعلاقات بين الرجال والنساء.. وكانت تغذق علي إشارات باعثة على الأمل، وتحاول أن تغطي على ارتباكي بتلك الابتسامة التي لن أنساها ما حييت. ابتسامة عالمة ذكية قادرة على الإطاحة بكل اليقينيات التي تنمو في الظلام.. وما زالت صورتها كأستاذة كرست موهبتها الهائلة للبحث السوسيولوجي تسيطر على كل الصور الأخرى.. صورة المرأة التي كانت في حاجة ماسة إلى المناقشات لتظهر جانبها المرح.. لقد أثارت كتاباتها جلبة كبيرة، لكنها كانت الجلبة التي قدمت لنا شرحا ما للحرب الحضارية الدائمة بين الرجل والمرأة..

أضف تعليقك

المزيد من بورتريه

الأربعاء ٠٦ نوفمبر ٢٠١٩ - ٠٧:٠٥

“محمد زيان” رجل حمال أوجه

الخميس ٠٨ نوفمبر ٢٠١٨ - ١١:٣١

شامة الزاز: تخلى الجميع عني

السبت ١١ يونيو ٢٠٢٢ - ٠٨:٤٣

“عزيز البدراوي” قيمة وازنة قد تنضاف لعالم الكرة المغربية

الخميس ٢٦ أكتوبر ٢٠١٧ - ١٠:٤٦

الممثلة هدى الريحاني : قوة خارج الكلام الذي يشبه شرائح الثلج!