نشرت جريدة الْكونفيدينثيال الإسبانية بتاريخ 17/02/2018 تحقيقا صحفيا للصحفي الإسباني ماركوس غارثيا راي حول تاريخ هجرة الإسبان إلى المغرب نهاية القرن 19 وبداية القرن 20. ونظرا للصدى الكبير الذي تركته قضية عزم إسبانيا إرجاع المهاجرين الذين عبروا الحاجز الشائك الفاصل بين المدينتين المحتلتين إلى المغرب، فقد ارتأت جريدة افادة الإلكترونية ترجمته ونشره هنا.
ماركوس غارثيا راي
شكل المغرب والجزائر، ولا سيما المناطق الخاضعة للحماية الفرنسية ، “إلدورادو” للعديد من الإسبان الذين فروا بداية من البؤس وبعد ذلك من عنف الحرب الأهلية
**** تعليق الصورة الاولى: بطاقة تاجر الحبوب فرانسيسكو كانيزاريس ، مقيم إسباني في منطقة النفوذ الفرنسي بالمغرب.(ارشيف العائلة).
كانت أمي تطل من النافذة وتحصي القنابل التي ألقتها الطائرات الأمريكية على البارجة الفرنسية جين بار. شعرت بالهلع ، بينما كنت أسحبها من تنورتها وأتوسل إليها لكي نذهب إلى الملجأ ، بدت القنابل وكأنها قناني صغيرة من الكوكاكولا سقطت من السماء. بحيوية تحكي أسونْثِيونْ فيرِيسْ، التي كانت في العاشرة من عمرها، أن والدتها العنيدة أحصت 21 قنبلة ألقيت على إحدى جواهر البحرية الفرنسية فيشي، الموالية للنازيين، في محاولة لتدميرها دون جدوى.
حدث ذلك في نونبر من سنة 1942 في الدار البيضاء. حيث هاجر والدا فيريس إلى المغرب ابان الحماية الفرنسية سنة 1929، فارين من البؤس الذي عاشته المناطق الداخلية من أليكانْتي سعيا وراء حياة رغدة في المغرب.
بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر وأواخر النصف الأخير من القرن العشرين ، عانت إسبانيا من مجاعات وجفاف مستمرين، وعدم استقرار اجتماعي وسياسي، ومن الحرب الأهلية، التي تسببت في إفقار معظم مناطقها. ودفعت الصعوبات الاقتصادية والنفي الإجباري لكثير من الجمهوريين مئات الآلاف من الإسبان للهجرة إلى دول مثل الأرجنتين والبرازيل وكوبا وفرنسا.
لكن الحقيقة غير المعروفة هي أنه كان هناك الكثير من الناس الذين كانوا يبحثون عن الثروة في المنطقة المغاربية .
ففي عام 1900 كان هناك 160 ألف إسباني في الجزائر شكلوا مستعمرة كبيرة الى حين انسحاب فرنسا منها عام 1962. أما في المغرب فقد تواجد به ابان استقلاله سنة 1956 ما لا يقل عن 150000 مقيم إسباني، انقسموا بين مناطق الحماية الإسبانية (80000) والفرنسية (50000) وفي مدينة طنجة الدولية (20000). وقد سبق لأكاديميين مثل خوان باوتيستا بيلار ، وخوسيه فيرمين بونماتي ، وبرنابي لوبيث إلقاء الضوء على هذه الأرقام الديموغرافية في الكتابات العلمية.
**تعليق الصورة الثانية: للفوز بثقة السكان المحليين، بنى الفرنسيون حيًا من العمارة العربية النموذجية في الدار البيضاء ، الحبوس .( ماركوس غارثيا راي )
وهكذا ، فإذا كان المغرب بعد استقلاله بوقت قصير ، يبلغ عدد سكانه 11.6 مليون نسمة ، وكان 1.3 في المائة من أصل إسباني، فاليوم ، في بلدنا ، هناك رسميا ما يقارب 75000 من المغاربة ، وهو ما يعادل 1.5 في المئة من مواطنيها وهو فرق بسيط.
فقد جعلت الأزمات التاريخية لكلا البلدين، السفن العابرة لمضيق جبل طارق شاهدا على تدفقات الهجرة جيئة وذهابًا. وفي بعض الأحيان ، قد يكون النسيان أو الجهل بالتاريخ وراء أحكام مسبقة مثيرة للخجل.
الجوع يوظب الحقائب
الانتعاش الذي عرفه الاقتصاد المغربي عقب بداية الحماية سنة 1912 ، خاصة على الساحل الأطلسي الخاضع للنفوذ الفرنسي، والتطلعات الأفريقية للجيش، جذب الآلاف من الأندلسيين، والقشتاليين، والمشرقيين والكناريين الذين تركوا وراءهم مجالا قرويا معدما وطرقا سياسية سيئة بعيدة عن التقدم وهو ما تكشف عنه شهاداتهم الصادمة.
هرب جد سانتياغو كانيثاريس، زوج أسونثيون فيريس، من مالقة بسبب الفقر ووصل مع عائلته الى مازاغان – مدينة الجديدة حاليا – إلى أن حصل على البكالوريا. في نفس الوقت، كان يساعد والده، تاجر الحبوب ، في التفاوض مع المزارعين المغاربة ولعب الكرة الطائرة وكرة السلة في الفرق المحلية. فقد كان يتقن منذ طفولته الفرنسية والإسبانية واللهجة العربية للمنطقة.
بعد القيام بالخدمة العسكرية في بلدية إشبيلية ، تزوج كانيثاريس لأول مرة بامرأة من صقلية وسافر إلى تطوان، حيث درس منذ عام 1945 في مركز الدراسات المغربية، وهي مؤسسة أنشاتها إدارة الحماية الإسبانية لتكوين هيئة من الترجمان أو المترجمين والخبراء في الثقافة العربية من أجل تدريب موظفين آخرين في المستعمرة. فور حصوله على الإجازة، سيبدأ في العمل في الاستخبارات لصالح الجيش. كان دائما في حالة تأهب نظرا لحالة التمرد السائد لسكان الريف. فكان يتحدث مع المخبرين، ويعترض الاتصالات اللاسلكية ويترجم النصوص .
**** تعليق الصورة الثالثة: سانتياغو كانيثاريس (يمين) يلعب الكرة الطائرة في مازاغان-الجديدة .(أرشيف العائلة).
غير أن ضغط زوجته الصقلية، المعتادة على الثقافة الفرنسية أكثر من الثقافة الإسبانية، أجبرته على العودة إلى مازاغان ثم إلى الدار البيضاء، وبعد حصوله على الطلاق تزوج أسونثيون فيريس. عاش الزوجان في واحدة من أكثر المدن دينامية في العالم في فترة الأربعينات والخمسينيات ، محط فخر الاستعمار الفرنسي .أصبحت الدار البيضاء باريس إفريقيا ، هنا قدم المخططون والمهندسون المعماريون من جميع أنحاء العالم بحرية كبيرة، وصدح صوت إديث بياف، وكانت الحانات والنوادي الليلية مليئة بالشباب والرقصات تملأ المكان، كما لو انك في عاصمة فرنسا باريس.
في عام 1966 ، بعد مرور عقد على الاستقلال، غادرا فيريس و كانيثاريس وطنهما وهاجرا إلى مدريد ليتكلف هو بإدارة أول مقر لـ (Crédit Lyonnais) القرض الليوني في إسبانيا. حيث لم تترك مغربة الاقتصاد مجالًا كبيرًا للأجانب فغادر معظمهم، وأجبرت القيود التي فرضتها الرباط بمنع إخراج العملة الزوجين على عبور المضيق عدة مرات مخبئين المال بداخل المصابيح الأمامية للسيارة.
تحكي أسونثيون فيريس أنه لطالما شعرت أنها بدون بلد لأن وطنها ، الدار البيضاء ، إحدى أكثر المدن عالمية في منتصف القرن العشرين.
عند مجيء الاستقلال ، لم نفكر في العودة إلى إسبانيا. لطالما عشت مندمجة في المغرب ، لم أشعر أبدًا بالعداء.
بقيت أقلية من أولئك الذين جعلوا لهم جذورا في المنطقة الفرنسية . ”كلما تقدمتُ في السن ، كلما أعجبني ما هو إسباني: الاستماع إلى راديو ناثيونال (الاذاعة الوطنية) ، أغاني الكوبلا ، الفلامنكو … لكني أشعر أيضًا أني مغربية وأحب الثقافة الفرنسية”. هكذا تتحدث مارغريتا أورتيث من قلب منزلها في الدار البيضاء.
وصل أجدادها إلى تلك المدينة سنة 1906 قادمين من إقليم قادس الفقير. وأحفادها الأربعة هم بالفعل جزء من الجيل الرابع الذي ولد في الدار البيضاء.
”عندما جاء الاستقلال ، لم نفكر في العودة إلى إسبانيا. لقد عشت دائمًا في المغرب ، لم أشعر أبدًا بالعداء أو كره الأجانب ، “تحكي أورتيث ، التي لم تفقد لكنة عائلتها القادسية. في عام 2003 نشرت كتابًا عن تجاربها الغنية ، إسبانيو الدار البيضاء ” Espagnols de Casablanca” ، الذي صدرت نسخته الإسبانية سنة 2014.
تقول بيبا ا بوث، التي عملت كأستاذة لجزء كبير من حياتها ، إنها عندما كانت صغيرة، كانت الإسبانية لغة التواصل في أسواق المدينة ، إضافة إلى الفرنسية أو العربية.
اللغة البلنسية: اللغة الرابط في الدار البيضاء
وقد حظيت خبرة القادمين من شرق إسبانيا في زراعة الحوامض بالتقدير من قبَل المستعمرين الفرنسيين. وهكذا ، فقد كان رئيس العمال في العديد من مزارع منطقة وهران الجزائرية والساحل الأطلسي المغربي ينحدرون من منطقة بالنسيا وأليكانتي ومورسيا. العديد من أحفاد هؤلاء الإسبان الأوائل الذين عاشوا بذلك المغرب الكبير يؤكدون أن اللغة البَلنْسية كانت اللغة الرابط في ميناء الدار البيضاء المهم. كما أن لغة لعب الورق في المقاهي المجاورة ، حيث كان الناس من مختلف الجنسيات يلعبون، كانت أساسا القشتالية والبلنسية.
كانت لغات لعبة الورق في مقاهي الدار البيضاء ، حيث كان الناس من مختلف الجنسيات ، هي القشتالية والفلنسية
وصل فيثنتي فيريث سنة 1949 إلى الدار البيضاء قادما بالضبط من مدينة بينوسو في اليكانتي. سافر أقاربه في العشرينات لإدارة مزارع الحوامض. ”كانت إسبانيا ما بعد الحرب بلد البؤس وبطاقات التموين وتجارة الخبز اليابس غير المرخصة” ، يسرد بعينين حية تنم عن الذكاء. بالإضافة إلى ذلك ، لم تكن عائلته “مدمنة” على نظام فرانكو ، ولم يكن والده يريده أن يقوم بالخدمة العسكرية. “لا أريدك أن تخدم فرانكو” ، قالها وعمل ما في وسعه إلى أن حصل على الوثائق التي سمحت له بدخول منطقة النفوذ الفرنسي.
في البداية ، عمل هذا الإسباني القادم من أليكانتي على إصلاح أجهزة الراديو ، ولكن سرعان ما انضم إلى شركة الأجهزة جورج مونيي ، حيث تمت ترقيته ليصبح مديرًا عامًا. يتحدث فيريث عن الموظفين العاملين لدى الشركة في الدار البيضاء ، وهي صورة رائعة لتلك المدينة: “كان المسؤولون فرنسيين ، باستثنائي أنا ، كان ثلث العمال من اليهود المغاربة ، وثلثهم من المسلمين المغاربة ، والبقية كانوا أوروبيين ، إسبانيين وإيطاليين بالأساس “.
تزوج في عام 1953 بميلاغروس فيدال ، التي وصلت قادمة من كوينكا سنة 1931 ، بعد بضعة أشهر من ولادتها. لم تكن أسباب المنفى الطوعي لعائلتها اقتصادية بل سياسية. أراد والدها أن يستثمر في شراء آلات حصاد الحقول ، ولكن ، في مناخ يعم فيه العنف، أسابيع قليلة قبل إعلان الجمهورية الثانية ، أضرمت مجموعة من الفوضويين والنقابيين النار في بعض آلاته. رأوا في تحديث الزراعة تهديدا للفلاحين.
بعد حياة سعيدة في المغرب ، عادت ميلاغروس وفيثنتي، رفقة ابنتيهما الكبرتين المولودتين في الدار البيضاء ، إلى إسبانيا سنة 1963.”لقد عدنا لأنه بعد وفاة الملك محمد الخامس في عام 1959 ، رأينا أنه لا يوجد مستقبل للأوروبيين في المغرب. على الرغم من أن الاستقلال قد تم من دون عنف ، إلا أن المغربة المتصاعدة ‘ في الدولة و الحرب الوحشية في الجزائر قد أرعبتنا فرحلنا ‘، يحكي فيثنتي فيريث .أضف إلى ذلك أن الوضع الاقتصادي في إسبانيا بدأ يتحسن.
**** تعليق الصورة الخامسة: تم بناء فندق إكسيلسيور الدار البيضاء (Excelsior de Casablanca) على الطراز الكولونيالي العربي الجديد بين عامي 1914 و 1916.( ماركوس غارثيا راي ).
المنفيين من الحرب الأهلية
تتفق مارغريتا أورتيث وفيثينتي فيريث على أمر واحد. فكلاهما يؤكد بأن الآلاف من المعمرين الإسبان في مغرب الحماية الفرنسية ينقسمان إلى قسمين: أولئك الذين لديهم علاقات مع السفارة والقنصليات الإسبانية والذين لم تربطهم علاقات بها. تضم هذه المجموعة الأخيرة الجمهوريون الذين حاربوا ضد المعسكر القومي. كانوا يرفضون أي علاقة مع سلطات نظام فرانكو.
خلال الحرب الأهلية وبعدها ، لجأ العديد من المنفيين مباشرة إلى مستعمرات فرنسا في بلاد المغرب. آخرون ، حوالي نصف مليون ، عبروا جبال البيرينيه هربا من العنف والقمع وذهبوا إلى مخيمات اللاجئين في جنوب فرنسا. على أبواب الحرب العالمية الثانية ، اختارت حكومة باريس منحهم متنفسًا. التحق بعض الآلاف منهم بالجيش النظامي الفرنسي للقتال ضد النازيين وانضم آخرون إلى الفيلق الأجنبي للجمهورية للقتال في أفريقيا. لكن بضعة آلاف منهم حصلوا على وضع لاجئ للعمل في المستعمرات الأفريقية، وخاصة في الجزائر والمغرب.
لم يعامل الفرنسيون الجمهوريون بشكل لائق، لقد كانوا يضعوننا في معسكرات الاعتقال حبيسي الأسلاك الشائكة.
وبهذه الطريقة ، وصل مئات من الجمهوريين الإسبان مع أو بدون عائلة إلى الساحل الأطلسي المغربي واستقروا في الأحياء الأكثر بساطة في الرباط والدار البيضاء، حيث كانوا يجاورون المغاربة والإيطاليين المنحدرين من الجنوب. يصف شهود عيان لهذه الصحيفة أن العديد من الجمهوريين وصلوا مشوهين.
وحكت باكيطا غورونيو للصحيفة التي تحدثت معها في منزلها بوسط مدينة الرباط عدة مرات قبل وفاتها شهر غشت الماضي “عندما وصلت إلى الرباط مع زوجي في عام 1939 ، كنت أقوم بتنظيم مهرجانات لمساعدة جنود الجمهوريين الجرحى” . .
عُرفت غورونيو بـ “عاطفية’ الرباط” لقد عبرت جبال البيرينيه خلال الحرب الأهلية ووصلت إلى معسكر اعتقال بولو بالقرب من برْبينيان. ” لم يعاملنا الفرنسيون نحن الجمهوريين بشكل جيد على الإطلاق ، احتفظوا بنا في معسكرات اعتقال بين أسوار من الأسلاك الشائكة وفي ظروف غير إنسانية. استطعت أن أعيش بشكل أفضل بعض الشيء لأنني كنت أتقن الفرنسية وأصبحت أحظى بمعاملة متميزة عندما كنت أعمل كمترجم “، تروي هذه المرأة ذات الشخصية والشجاعة الساحقتين.
**** تعليق الصورة الخامسة: بَّاكيطا غورُّنيو في منزلها بالرباط.( ماركوس غارثيا راي ).
لقد ساعدت اللغة الفرنسية هذه المدريدية التي درست في باريس عندما وصلت الى الرباط حيث اشتغلت سنة 1944 سكريتيرة بالكلية الإمبريالية (ما أصبح يعرف حاليا بالمدرسة المولوية ). حكت بالتفصيل كيف التقت يومًا طفلة صغيرة في مكان عملها ، وقبلتها وداعبتها. اتضح أنها ابنة الملك المستقبلي محمد الخامس ، المدعو آنذاك السلطان محمد بن يوسف .رآها محمد الخامس وفازت بعطفه، الأمر الذي فتح لها أبواب القصر لتصبح السكرتيرة الشخصية لمولاي الحسن ، الذي سيصبح فيما بعد الملك الحسن الثاني .
لم تعد باكيطا غوُّونيو إلى إسبانيا ، باستثناء للزيارة. توفيت في منزلها في الرباط وعمرها يناهز 104 سنة.
هذه القصة لا تعطي ثراء مغامرات ومحن بّاكيطا ، ومارغريتا ، وأسونثيون ، وسانتياغو ، وميلاغروس و بيثينتي حقها لأنها تختصر فقط بعضا من جوانب تجاربهم غير العادية. ولكن توضيح الأمر الذي يوحدهم: في الأوقات العصيبة بإسبانيا ، كان شمال إفريقيا أرض الاستقبال والازدهار بالنسبة لهم ولأسرهم . كانت “عملية المضيق” ، في وقت ليس بالبعيدا جدًا ، تتم بالعكس.
أضف تعليقك