
علبة الأسرار ولعبة الحكي في رواية الأشعري
حسن إغلان
ونحن نقرأ الرواية الأخيرة لمحمد الأشعري، بدا لنا العنوان الذي اخترناه لهذه الرواية منفلتا بين الأصابع والأوراق، وحين إنهاء القراءة، لم نستطع إعادة الجسد لتوازنه السابق، وكأن دوخة ما قبضت عليه، وأنزلته إلى السحيق المطمور بين السطور. إنها دوخة مزدوجة بين القارئ والمستمع ، حيت تكون التلاوة مُنْسابة في أرخبيلات تخييلية مذهلة، ويكون المستمع حفارا؛ يقلب تلك الجزر بمعاول قرائية مختلفة. وبينهما يكون الكاتب في البعد الآخر من غلاف الرواية. فهو يترنح بين الشعري والسردي، يفتل الحروف والكلمات، ويضع المشاهد ويهندس الأمكنة، ويغوص في حيوات شخوص وظلالها القريبة والبعيدة. هنا نتوقف على هذا الوسط المثمر بين الشاعر والروائي لا لنجد الوصل بينهما، وإنما في الفصل الذي يضعهما في صيغة بين بين، كما لو كنا أمام مِرآة تكشف الشاعر لتخفيه في هذا العمل الروائي. لكن لماذا تكون هذه المساحة الرقيقة موضع سؤال؟ هل لأن طابع التداول الثقافي ربط الاسم بالصفة؟ حتى ولو كان محمد الأشعري قد اشتغل بالعمل السردي منذ مجموعته القصصية إلى روايتيه السابقتين. تراكم سردي يغلب عليه صفة الشاعر. قد تكون هذه الأسئلة خارج سياق القراءة. إلا أننا مع ذلك أردنا إثارتها لقلب الوصل، وإعلان الفصل بيانا لفكِّ العلاقة المسبقة، والتي يزعم التداول الثقافي المغربي رسمها، وترسيخها في الذاكرة والاعلام، لنترك اشتعال أسئلتنا تتقد لوحدها، ونحاول إعادة بوصلة القراءة من جديد، ودون الحفر في عتبات الرواية للتسلل إلى المعنى الذي تختزنه في لوحتها. بهذا الشكل نقيم حدودا لهذا المعنى المشتت في البياضات بين العنوان والكاتب.
ثمة أمور وجب الانتباه إليها في قراءتنا لهذه الرواية وهي الأمكنة والأزمنة، المعنى واللامعنى، الحكاية واللاحكاية، الداخل والخارج، الخفاء والتجلي… إنها الموضوعات التي نريد مساءلتها بشكل تضع الرواية خارج بياضاتها المحتملة، وتضع فواصلها وصلا عشقيا يفيد اللذة والمتعة. بهذه الطريقة نستطيع الوقوف على الخيوط المتشابكة المتقاطعة كشكل زخرفي لا يستطيع المرء بيان معناه إلا حين يقلب الدلالة، ويمحو الاسم والأثر. ولأن الأثر هو مربط الفرس في عنوان الرواية، مادامت الأسماء جسورالعبور نحو مصائرها المختلفة، هذا العبور هو الحامل للأثر، وهذا الأخير لا يسكن الزمان والمكان فحسب بل يتعداه إلى مكامن الروح في كل شيء قائم وغير قائم. الأشعري هنا يبحث في هذا الأثر بطريقة أركيولوجية وجنيالوجية تكون فيها الموسيقا الرافعة الرئيسة في ذلك. والأثر هنا لا يقدم نفسه بوضوح وإنما ينكشف في المحو الذي يلاحقه، فالأثر الذي يخلفه الاسم لا ينتهي مع بَتْرِه من شجرة الأنساب بل في البحث عن العروق الثاوية خلفه، وفي الخيال الذي تنسجه الحكايا . ليلخص في الأخير بوضعه في علبة مغلقة. هنا يكون التأويل منفتحا على هذا الذي لا يقبل الغلق. وكأن العلبة هي غلاف الرواية التي يحْرُس الكلام من التحليق، وكأنها – كذلك – زوبعة فوضى الحواس. العلبة إذن تطريز المنفلت منا أو هي بالكاد اتصال وانفصال بين المدينة القديمة ولاشعورِها. حيث يكون هذا الأخير عبوراً نحو الأندلسي، لما تحيل عليه من فقدان رهيب. بين الأسماء والعلبة امتداد الوصلِ والفصلِ. هذا الممتد غير محدود. أي أن الكاتب رسم حدود العلبة، إلا أن الأسماء لم تقبل سجْنَها، الشيء الذي جعله متنقلا بين الحدود ودون تقديم سلسلة خطية يفيد ألفها ياءها. لقد قام بقلب القاعدة الخطية للحكي، وجعل العلبة تولد علبا أخرى، أعتقد أن شرط الكتابة له سلطة قاهرة خاصة في كون الرواية تبتدئ من صفحة كذا وتنتهي في صفحة كذا. إذا لم يكن الأمر كذلك فتستمر الرواية إلى ما لا ندري. صحيح أن العمل الروائي لا يتوقف في صفحته الأخيرة 446، وإنما تزيد أو تنقص حسب قرائها. فالبعد التأويلي للقارئ يضيف للرواية المعنى، مثلما ينزاح نحو مشاركته ـ الفاعلة والمنفعلة ـ مع الشخوص في إثراء الرواية، وكتابتها أو حكْيِها من جديد.
ولأن هذه الرواية لا تقدم الأثر إلا لتمحوه، ولا تعطي المعنى إلا لتزيله فإنّنا نحاول مشاكسة هذا الذي يكون ولايكون. أي هذا المنفلت من علبة الأسماء، والمبثوت في الحكايا المتعددة لحكاية واحدة لكن من أين نبدأ؟ سؤال يتموضع بيني، أنا القارئ، والمستمع. لهذه البداية نعيد للعلبة لعبتها، وللأثر اسمه، وكأن التسمية هي الموسيقا الثاوية خلف الأمكنة والشخوص. أو هي البوابة الرئيسة التي أدخلت كاتبنا للبحث عنها في مجهولها، أو بالأحرى في لا شعورها الذي لازال يعيش في راهننا المغربي. لننخرط إذن وفق النقط التالية:
أ- الحكاية واللاحكاية:
تبدو الصنعة الروائية في هذا العمل ظاهرة ببهاراتها المتعددة. الحكاية إحداها نحن إذن في مطبخ سردي فارق، وهو ينحو مناحي التركيب العجيب للحكايا الجزئية. كيف ذلك؟ لنتصور محمد الأشعري في مطبخ الكتابة ولنقم بتصوير تخييلي لفضائه، فهو لا يعتمد على الجوهري الأساسي في تقديم طبيخه، ولا يرمي ما تبقى منه في المتلاشيات. وإنما يصنع من هذا المهمل أكلة خاصة ولذيذة كما لو كان يقدم لنا “البايلا” الأندلسية. إذا افترضنا ربط الكتابة بالمطبخ سنتحصل على مذاقات متعددة وعلى الاقتصاد في اللغة، وعلى القفز بين حكاية وأخرى بحثا عن مذاق يفيد المتعة واللذة معا. بينما الإشباع متروك عند اللذين لا يميزون بين المذاقات، المطبخ هو العتبة الأولى لقياس حذاقة روح صاحبه، والكيفية التي تخلط بها الكلمات والأشياء، الأسماء والآثار، البؤرة التي تشكل مدى ألمعية أصابع صاحبها. كيف ذلك؟
لاتقدم لنا الرواية نفسها في صفحاتها الأولى، ولا حتى في آخرها، أو وسطها بقدر ما أنها شلال حكائي يتدفق بانسياب لا محدود. وفي انسيابه يخلق أنهاراً صغيرة تعود إلى منبعه أو تفرغ في المصب الأخير. ثمة طريقان للنظر إلى هذا المنظر، واحد يرى الشلال ليخرس خريره رغبة في الطمأنينة والصمت كما الحكاية الصينية تماما. وآخر، لا ينظر إلى الشلال مصدرا بل يتتبع الماء في تشققات الأرض رغبة في ربط التشققات في ما بينهما، وفي نفس الوقت يتأمل مصير الماء ومآله. تلك هي رواية محمد الأشعري. إنها تروم المنظر الذي قمنا بتصويره سالفا. فاذا افترضنا – كما قلنا – أن الرواية تعرض المعنى في صفحاتها الأولى، ولا تخيفه، فان ما تبقى منها ينساب خالقا طرقا متعددة للمعنى. صحيح أننا أمام رواية تلعب فيها المرأة دورا رئيسا إن لم نقل هي السلطة العارفة بالخبايا، والمهندسة لمعماريتها، والحائكة لخيوطها الظاهرة والخفية. ثلاث نساء يحملن قناديل الحكي كل واحدة تحيل على مرجها الرمزي في علبة الأسماء. تبتدئ الرواية من ثريا وتنتهي باعترافات بديعة وبينهما تكون شِيمْرات العارفة والمالكة للكنز. بينهن صراع حول من تمتلك الحقيقة حتى وإن كانت الحقيقة كنزا محمولا على أجنحة الخيال والأسطورة. لقد برع الأشعري في جعل النساء البؤرة الرئيسة في روايته. ليس من حيث الكنز المطمور تحت الأرض وفي بلازما الذاكرة وإنما في جعل الرجال ( عماد حفيد شيمرات عاشق ثريا والمتزوج ببديعة، والفقيه الأمزميزي الموكل له فتح الكنز والحكايا المخلفة وراء ظهوره واختفاءه، وريتشارد زوج ثريا اللاهت خلف تجديد أسطورة أجداده، وبيدرو عاشق شيمرات الولهان بالموسيقى الاندلسية، وأبا عمر السجان والمقاوم ذي القرابة مع عماد والمتورط في البحث عن الكنز والقاضي بركاش حارس سلالة الأندلس في الرباط، والبودالي الحامل لوثيقة الكنز.. ثمة شخوص أخرى تختفي وراء سجن لعلو كمالك، لهبيل، الخرموزي، يوسف، ظهرالاسلام، طارق والنمرود…) يحومون حول الكنز، أو حول امرأة تبدع الحبائل لترويضه كي يكون خاتما في أصبعها الأيمن أو الأيسر. لا نحيل هنا على حكاية ألف ليلة وليلة بقدر ما نربط سلطة المرأة في المجتمع وثقافته لكونها تمتلك الرموز والليل، في حين أن الرجل يحتفظ بسلطة برانية تؤول الظاهر والقانون والعزف والنهار، و بين الليل والنهار تنفجر الحكاية إلى حكايا متعددة تعرف المرأة مصائر شخوصها مثلما تبعث الجواني المخبوء.
في حكاية ثريا حفيدة القاضي بركاش والإعلامية في التلفزة المغربية، والمتزوجة من ريتشارد المكلف بإصلاح التلفزيون المغربي… الجميل في هذه الشخصية لا يتمثل في ارتباطها بالسلالة الأندلسية فحسب، وإنما في علاقتها بجسدها، إلى حد ما أضحى هذا الأخير مفتاحا لرؤية العالم. فأكثرية حكاياها تبتدئ من فورانه واشتعاله الحميم، وكأنه هو القادر على تبديد التباساتها وتعبيد الطريق نحو كتابة سيناريو ممكن. قد تكون ثريا نهرا يتمدد نحو خلق أودية أخرى حيث كل واحد يحمل عنوانا لسيناريو تود ثريا أن تبكي المغاربة حين رؤيتهم مسلسلا تلفزيونيا. إنها في كل مرة تقبض على حكاية ما التقطتها صدفة، أو أثناء علاقتها بشيمرات وعماد وآخرون.
يدخلنا الكاتب في تماس مع الدمى الروسية حيث كل دمية تستر دمية أصغر منها إلى أن نصل إلى الدمية التي لا تقبل التجزيء، وهي صيغة من صيغ الحكايا السردية التي تفنن العرب في صوغها ببراعة فائقة، ولأن الحكايا التي تود ثريا كتابتها سيناريوهات مسلسل تلفزيوني ممكن فهي تظل ممكنة، أي يظل اكتمالها منحصرا على فوران جسدها. سواء على مستوى القبل الخاطفة في بيت شيمرات مع عماد أو في تلك الجلسات الحميمة مع زوجها ريتشارد. إنها حكايات منفلتة من سرادها، ومتحررة من اكتمالها. ولأنها كذلك فهي تتمفصل بين الواقعية السحرية والواقعية الحافية. (ص 246) .
هكذا يتموقع الجسد الأنثوي بوصلة لتنطيم الحكايا وسرادها ولأن الجسد مفتاح الرواية مادام تحرره الممكن يتقلص ويتمدد وفق المكان الذي يحتله. إنه جسد يعيش بين السحري والواقعي، بين العري والحجاب ليكون مصدرا لفوضى الحواس لدى ريتشارد، وزوبعة المكبوت لدى عماد، وفضاء الممكن لدى مالك. بهذا المعنى يكون الجسد مفتاحا وجوديا لصاحبته.
“..وكأن الجسد يحصل في هذا المرور على حصته من كل الأزمنة ” ص 79. ليس في عبوره بين الأمكنة والأزمنة وإنما في انفلاتاته المؤدية إلى المطلق، أي في تلك اللسعات الكهربائية التي تحوله عرقا متصببا في كل الجهات:
“.. كلما سنحت فرصة هجمت ثريا بجسدها، وشهوتها المنظمة، ولسانها القاسي، وأسئلتها الحارقة، على ريتشارد، كأنها تريد أن تستهلكه كاملا ليكون مقتله خسارة أقل مرارة من استمراره…” ص 81. من هنا تتمظهر غواية المرأة وتفنّنها في تحديد مصير آخرها. وهو بذلك يكون الجسد تلحيما للفراغات التي يتركها الزمن. وكأن ثريا ترتق تلك الفراغات حكايا لسيناريو ممكن يبكي المغاربة، ويضعهم قاب قوسين في مؤقت نازفٍ.
بينما تحتل شيمرات عمودا مركزيا في المعمار الروائي ككل. ليس لغرابة اسمها ولا حتى للأثر الذي يحمله في اللاشعور، ولكن في امتلاكها لأسرار الأندلس والمدينة القديمة، وهي مفتاح الكنز المدفون بالقرب منها. إنها سلطة عارفة بما تريده. تقوم بتدبير فضائها الخاص بذوق رفيع بتزيين جسدها، وإعادة تلميع أوانيها النادرة. أواني تروم الحفاظ على تاريخها السري. وأكثر من ذلك فهي قوية من خلال انتقالها من خمسة أزواج ليضل عناد معشوقها وعاشقها ينتظر في مؤقتها اليومي. تستفزنا هذه الشخصية في مناحٍ كثيرة نذكر من بينها رؤيتها الثاقبة للأمور المحيطة بها، وغضبها اللافت في لحظات ما. وكذلك لامتلاكها المخبوء والرمزي في الذاكرة والواقع. إنها تجربة نسوية تستحق أكثر من منظار للتدقيق في تفاصيلها، مثلما ترميك لغتها إلى الضحك وكأنها تحافظ على لغة قادمة من الأندلس. لكن من أي زاوية نظر نتقرب من هذه الشخصية المشاكسة والمتمردة. هل نبحث في الأرشيف عنها؟ أم نقرأ شقوق المدينة القديمة وتعالق العائلات المورسكية التي استقرت بها؟ أم نتلصص عليها في الرواية؟ أي في تلك العلبة التي لم تغلق بعد؟ صحيح أن اسم شيمرات دال على حقيقة تاريخية، وصحيح كذلك أن هذا الاسم لم يتكرر فيما بعد. ولكن هو الاسم المرتبط سرا بالكنز. هذا الأخير سيشعل الصراع بين الراغبين في امتلاكه. هي تتفرج عليهم من بعيد، وتسخر من الجميع، ولكنها تغني وترقص مع بيدرو. علاقتها به ملفوفة بوشم لم يمح بعد، هي تحبّ سماع الموسيقى القادمة من الأندلس لذا تنصت إليه برهبة كما لو كان صوته يعيدها إلى الأصل. بالمقابل علاقتها بحفيدها ملتبسة، ليس لأنها كانت تشك في جنسه في الأول وإنما في علاقته بزوجته بديعة ابنتيهما فاطمة التي كانت تود أن يسميها شيمرات. هكذا تتبدى شخصية شيمرات بين الخفاء والتجلي. فهي عادة ما تنسج فضاءها بالحجب وكأن وجودها لا يستقيم إلا بذلك، مثل الكيفية التي ترتب بها أغراضها الثمينة. واختفاءها التام عن الوجود مدة أسبوع وصمتها المشاكس بمكان الكنز. ” … ربما تختفي (شيمرات) لتحافظ على سلطان اسمها، حتى لا يحل ذلك اليوم الذي يصبح فيه كنز القصبة بلا اسم يحرسه؛ وعند ذلك، ستكون المرأة التي ستهرب الأندلس مرة أخرى نحو ضفتها الأصلية، لتنقذها من لباس الأفغان ومجالس الترهيب وباعة الأعشاب والطب النبوي، وقوافل الدعوة.” ص 301
يبدو أن شيمرات كنز أنلدسي لا يظهر إلا ليختفي في الحكاية ربما لان الاسم مفتاح الكنز. لذا كان البحث عن النساء الحاملات لهذا الاسم في القدم رغبة في استخراج الكنز. الكنز يستلزم شيمرات، والعكس صحيح تماما (ص 54-55). الشيء الذي سيخلق منه التاريخ أسطورة الاسم. من هنا ضرورة تأثيث الأسطورة بتناسل الحكايا حول الاسم في تجليه وخفائه الى حد أن أصبحت معه شيمرات تكره قرينها في الأسطورة. “… كانت (شيمرات) تكره الكنز، لأنه كان سببا في سوء تفاهم مزمن بينها وبين العالم…” ص 151. بهذا المعنى تكون هذه الشخصية غامضة في حدود خفائها، أو في منطقة اللاشعور الجمعي. ولأنها تبدو وبهذه الطريقة العجائبية فإن الرواية لا تكشف عنها إلا حين موتها وبالضبط في صفحة 440: “… وسيكون طريفا أن يذكر أحدهم، بعد سنوات، أنه حظر جنازة شيمرات وهو آخر اسم توارثي حملته مسلمة في مدينة المورسكيين والأورنا شيروس ويعني “الحارسة” هي فعلا كانت تحرس كنزا عظيما لم يجده أحد ولم يعرف أحد حتى الان من وجده”. لا يتعلق الأمر بالكنز بقدر ما يندفع نحو الاسم مادام هذا الأخير هو الأول عينه، وفي هذه الثنائية العجيبة تشتعل الأسئلة حول الدلالة والمعنى، وحول ما يفيده السارد من خلال تأخيره لدلالة الاسم؟ صحيح أنه اشتغل على تقنية التحقيق البوليسي في أكثر من مرة الشيء الذي يكون فيه هذا التأخير نتاجا لتحقيق صعب. ليس على مستوى الكنز وتضاعيفه المتعددة، ولكن في الاسم الذي يحمله باعتباره مفتاحه الأخير. بهذه الطريقة تنتعش الغرابة في الدفن، أي في هذا المحجوب الذي ظل في الأرشيف والذاكرة كشيمرات والأندلس والكنز.
إذا كانت ثريا تنتقل بين حيوات مختلفة لتتصيد سيناريو لمسلسل تلفزيوني يبكي المغاربة وشيمرات تمتلك الأسرار وتحتجب وراء أسطورة الاسم فإن بديعة تقامر بخصائص هاتين الشخصيتين، وتنزع نحو امتلاك السلطة داخل البيت الكبير، وهذا لا يتم إلا بانتقال وجهها من صورة إلى أخرى كما لو كانت تنتمي لسلالة العفاريت. إنها الشخصية العارفة بحقائق الأشياء، كما أنها تقوم بترويض الشخوص الأخرى بطريقة شيطانية، وهذا ما تعترف به في الأخير لزوجها في نهاية الرواية. “.. اعترفت له بديعة بانها كتمت عنه أشياء لم يعد ممكنا أن تستمر في كتمانها، من ذلك أنها هي التي أوحت للبودالي بالذهاب وحيدا إلى بيت القصبة ووصفت له مخبأ الكنز العظيم، وأنها هي التي أرسلت فقيه أمزميز في أثره، لاستئصال الجرثومة من أصلها، وهي التي أتلفت عقل أبا عمر بروايات متناقضة تركته لا يعرف الحقيقة من الخيال، وأنها هي التي ابتكرت الشبح، للانتقام من كل الذين لا يرونها إلا ذميمة شريرة، ثم أنها هي التي اصطحبت فقيها من سوس، لا علاقة له بالفقيه المعلوم، ليفطر مع ثريا يوم خروجها من السجن، ويبث لها في “الهلاليات الساخنة عملا يطوح بها إلى بيروت .” ص 445
وكل ذلك من أجل الاحتفاظ على زوجها عماد. قد يكون هذا التبرير الذي تقدم به أفعالها لا يستقيم مع حواشي الرواية. ذلك أن التبرير آلية دفاعية نفسية تروم ستر ما هو ظاهر أو ما لا يرغب في ظهوره. وقد نجزم أن هذه الشخصية الغامضة هي ما يمكن أن تسميه اللمسة الأخيرة لتمثيل الشخصيتين السابقتين. ثمة صراع خفي حول من تمتلك حقيقة الأشياء، صراع سري يسكن العلامة ويتزين بالمجاز، وهو صراع لا يؤدي إلى الغلبة. وإنما يؤول حساب النقط بين هذه وتلك. إنه صراع القوى بين من تستطيع ترويض الحيوات المرتبطة بها. إذا كانت قوة شيمرات في الاسم والتاريخ، وقوة ثريا في الجسد فإن قوة بديعة في حربائيتها، والحيل التي تبدعها بإيقاع الآخر إلى حدود طيران عقله أو موته، أو سجنه، أو طرده، أو تهجيره.. وكل ذلك ينم على امتلاكها المستور والمخفي، حتى وإن كانت شخصيتها مقززة، ومستفزة ومصدرا للشرور وما إلى ذلك.
ثلاثة مفاتيح لثلاثة أسماء نسوية تفتح لنا النص الروائي، وتمكننا من إعادة هندسة الفراغات والبياضات التي تركها الكاتب لقرائه. هنا يكون المفتاح علامة رئيسة في الرواية. من جهة أولى فهو الرمز الذي ظل يشد العائلة الرباطية بالأندلس. ومن جهة ثانية فهو من ممتلكات المرأة. حتى وان كان يعود لفاطمة في آخر المطاف إلى فاطمة ابنة بديعة. تلتقي المفاتيح القرائية بالمفتاح الذي يبحث عن ثقبة القفل المفقود في الأندلس إنهما يتشابهان ويتنازعان حول امتلاك الحقيقة. وهذه الأخيرة ليست سوى حكاية يتناقلها الناس. كل واحد يعتبر أنه مفتاحه الأساس إلا أن هذا المفتاح يضل محجوبا في الحكاية، حتى وإن كان مالكها يلعب به كما يريد، ويتجه به إلى أقاصيه البعيدة والقريبة، فإنه مع ذلك يختفي، ولا يظهر إلا حين يريد قتل المعنى عبر كشفه للعيان.
لكل حكاية مفتاحها، ولكل مفتاح سبيل للمعنى. وما يدهش في هذه الرواية هو حكاياها المتعددة والمربوطة بخيط لامرئي. “.. ومنذ هذه اللحظة تتسارع الأمور كما في كل الحكايات التي تعمر طويلا، كأن شرارة ما تشتعل فجأة في هشيم الحكاية فتمتد ألسنة اللهيب إلى كل شيء، تنفجر الأقفال تباعا.” ص 142
لامناص من القول إن كل واحد منا له حكاية، كيفما كانت طبيعتها، ورائحتها، ومكانها وزمانها.. حيث من الصعب خلط الحكايا المدفونة في الجسد حين كتابتها. لذا يقدم لنا الكاتب هذا الخليط الحكائي بتقنيات متعددة:
•الترقيم: تتسلسل الأرقام من 1 إلى 25، ومن 1 إلى 20 دون احتساب الصفر كمعادل للحياد. في كل رقم تنسج حكاية ما، إما في علاقتها بسابقتها أو بالتي قلبها وتفجير الصراع الثاوي خلفها. وهي أشبه بلعبة الورق حيث يكون السارد/اللاعب محتفظا بالأوراق الرئيسة في علبة الأسماء دون أن يكشف أوراقَه لآخَرِه.
•التحقيق البوليسي: وهي طريقة دأب الكاتب على استعمالها رغبة في شحذ خيال القارئ لتفكيك لعبته عبر متابعة الأثر الذي تركه أحد شخوص الرواية.
•التاريخ: لا يتعامل الكاتب مع الأرشيف بطريقة مباشرة، تفيد الحفاظ عليه والاتصال به، بقدر ما يبحث عن المفقود فيه، والانفصال الذي يسكنه ذلك أن العودة إلى الأندلس لا تروم إحياءها بقدر ما يدعو إلى السخرية منها عبر القبض على الفقدان، فقدان الاسم لمعناه والاحتفاء بالأثر الذي لم يمحه الأرشيف وهذا دال في تصويره اللافت للأندلس والمدينة القديمة بالعاصمة في أكثر من مرة.
•البتر: إنه لا يكمل الحكاية إلا ليبترها، ولا يكون البتر/القطع تقنية تفيد استراحة أصابع الكاتب وإنما هي علامة فارقة في الرواية إن الكاتب يقيم البتر في بنية الرواية. لأن كل شخصية من شخوص الرواية تستفيق على بتر ما. بتر قفطان شيمرات، وبتر ابن ثريا… الخ
•الموسيقى: ثمة خليط موسيقي يرتق الأرقام فيما بينها ليولد الحكاية، الموسيقى الأندلسية في بيت شيمرات، وفي المدينة القديمة، وموسيقى محمد عبد الوهاب وناس الغيوان في السجن. فهذه الموسيقى جسر لعبور الحكاية من مكان لآخر، الشيء الذي يعطي للنص الروائي إيقاعا جماليا فاتنا. مثلما يفتح النوافذ على المرجع والسياق والمعنى.
•الجسد:إنه العلامة المائزة لشخصية رئيسة في لعبة الأسماء هذه الشخصية (ثريا) يكون سبيل حكيها مرتبطا بحرارة الجسد وفورانه اللامع. سواء حين تكون لوحدها أو في علاقتها بعماد أو على سريرها الحميم.
•كتابة السيناريو: وهي تقنية جعلتنا أمام حكايا لسيناريوهات متعددة. ليس لأن ثريا تبحث عن حكاية تبكي المغاربة وإنما في إعادة الحكاية إلى مجالها التخييلي. وهذا لا يتم إلا بإذكاء خيال ثريا بإتمام السيناريو الذي لم تكتمل حكايته في الواقع وهي بهذا المعنى تنتقل من سيناريو إلى آخر إلى حدود سفرها إلى بيروت. وكأن الشيء الذي لا يكتمل لا يعول عليه. وهذا الأخير هو المنفلت بين الحكايا والباحث عن اكتماله…
•الرسائل: تتحدد الرسائل في شرطها الوجودي من حيث مكانها وزمانها. ستكون علب الوقود طريقة في التراسل داخل السجن. الرسالة محجوبة في العلبة، وعلى ظهرها صورة فراشة. ولانها تخاف الضوء فإن الرسالة تسكن العتمة بين حي النساء وحي الرجال. يستثمر الكاتب هذا الإبداع السجني في الرواية حيث تكون الرسالة بداية الحكاية أو نهايتها، بين لهبيل وخديجة، وبين مالك وثريا… لكن ثمة علبة تحمل ورقة بيضاء من خديجة إلى لهبيل. لا يعني البياض عدم قدرة خديجة على الكتابة. بقدر ما يروم هذا البياض إشراك الجميع الكتابة عليه، أو هو بالكاد نهاية الحكاية، فسح المجال للفضوليين إلى كتابة ما لا يكتب.
تقنيات برع الكاتب فيها: تلحيم الحروف، والشخوص، والأمكنة، والأزمنة… وهي الجسور المتعددة التي تبرق جمالية العبور من حكاية إلى أخرى. لقد حاولنا باقتصاد شديد التركيز عليها باعتبارها بهارات الكاتب في مطبخ الكتابة. ولأن الأمر يؤول إلى تلك التقنيات. فإن المجهول الذي تسعى ” علبة الأسماء” إلى ترميمه هو ما يهمنا الأن. هذا المجهول الذي تنسجه الرواية هو ما يضعنا أمام سؤال القبض على جوهر الحكاية. وحتى إن قبضنا عليها، فهل هذا يعني الوصول إلى الحقيقة، لكن من يقول حقيقة الحكاية؟ يبدو لي أن إعلانها ظاهر في الكنز. مادام هذا الأخير مختفيا كما الحقيقة ولأنها كذلك فالعارف فيها فقيه أمزميز والمخزن، وبديعة وأخيراً ريتشارد وكل واحد من هؤلاء يعود إلى المرجع الذي يؤسس معرفته بحقيقة الكنز، فاللافت في هذه الشخوص هو امتلاكها للحقيقة. والذي يمتلك هذه الأخيرة يمتلك السلطة. من هنا ما نتحصل عليه هو صراع الحقائق والسلط. فكل سلطة لها آلياتها وأوّالياتها في التدبير. أي من حيث المرجع الذي تستند عليه كل شخصية على حدة. وهو مرجع لا يقدم نفسه بوضوح. بل يتستر ويحتجب في المكان والزمان. ولا يظهر إلا ليختفي من جديد وهي العلامات المميزة للسلطة. فهذه الأخيرة تختفي وتتجلى في تجليات متعددة من قبيل اعتراف بديعة، ورغبة ريتشارد في إعادة تاريخ أجداده للظهور، وقوة المخزن العارف بدقائق الأمور، وحارس النفوس… وسلطة الفقيه المُنْبنية على المرجع الديني. أربعة مراجع تختفي وراءها السلطة وهي على التوالي: الأنثى وما تحيل عليه منذ خروج آدم من الجنة، والغرب في دلالته الاستعمارية، والعلمية… والمخزن في وضعه الاستبدادي، والفقيه الحامل لكلام الله…
ب-الأزمنة والأمكنة:
من الصعب تحديد أزمنة الرواية حتى ولو كانت في البعد العام تنتمي إلى الراهن المغربي. وهذا بيِّن في الأحداث الهامة والصاخبة (زمن المقاومة وذكريات أبا عمر انتفاضة الدار البيضاء 1981، انتفاضة الشمال، وبناء مسجد الحسن الثاني، والمحكيات المتدفقة في سهرات ريتشارد مع رجالات المخزن، والسيد القوي في الحكومة وما إلى ذلك). وكذلك في التاريخ (الأندلس، المعارك الطاحنة قبالة واد ابي رقراق..) إنها أزمنة تحيل على الوقائع التي حدثت إلا أننا مع أزمنة أخرى كالزمن النفسي وما يحتله اللاشعور التاريخي من بُعْدٍ رئيسٍ في الرواية. حتى وإن كان مفهوم اللاشعور يبدد الزمن لينساق وراء اللازمن وهو ما تستند عليه زمن الأسطورة والخرافة. تتعدد أزمنة الرواية حسب المواقف والمواقع اللتان تظهران بين الواقعية السحرية، والواقعية الحافية. بهذا الشكل نكون أمام زمن لولبي ومتقطع. أي كلما كانت سردية الخط الروائي تسير بنا إلى الأمام. إلا وانقطعت، ثم انفتحت على عوالم المؤقت المغربي، هذا دون نسيان زمن السجن وما يدل عليه من انكسارات وأحلام ورتابة… بين هذه الأزمنة المتعددة زمن شخصية شيمرات المرتبط بالكنز وتضاعيفه المختلفة وهو زمن يندفع نحو بلاغة الأسطورة وتشققات الأثر والذي يتم بمقتضاه القبض على المنفلت من تلك الشخصية. وكأن لكل شخصية زمنها الخاص.
إذا كانت الأزمنة (في هذه الرواية) تتمدد وتنكمش في البعد الأخير، في حكاية اللاحكاية، فإن الأمكنة محددة بشكل دقيق في مكان واحد وهو الرباط. إلا أنه يتعدد في ثلاثة مستويات وهي المدينة القديمة، وخارجها والسجن، والمكان المفقود/ الأندلس. لذا سيتم تلحيم هذه الأمكنة بالموسيقا والحكي والرسائل. بهذا الشكل سيخلق المكان سحريته وسيتم تغطيته وتطريزه بالخيال. وكأنه لا يكون كذلك إلا حين إضفاء البعد التخييلي عليه. بمعنى أن المكان الواقعي لا يعول عليه. إلا في الصورة التي نصوره بها. ولتمثيل ذلك وجب علينا تحديد بعض النقط التي تحيل على ما قلناه كـ :
فالمكان روح، أو أنه لا يكون بناءاً مادياً إلا إذا تلبس بروح تعينه. فعماد (حفيد شيمرات) ” يقول في نفسه إذا بقيت في هذا البيت فسانتهي فيه متولها بعجوز شمطاء وقد تكون هي ثريا. يقول ذلك لأنه أصبح واثقا أن البيت القديم لن يتنازل أبدا عن أساطيره الخاصة، بيت مليء بالأرواح، كيف يمكن أن يجعلك تعيش حياتك طليقا غير مسكون؟” (ص 73). لا يتعلق الأمر هنا بالمساكن القديمة وما تختزنه من حكايا خرافية. وإنّما يتعداه إلى خرافات جديدة كما نجدها في سهرات ريتشارد مع رجالات المخزن النافذين أو ما يسميها ” سهرة الأباطرة” في بيت الرجل القوي. حيث يتم تدبير البلد بكامله في سهرة طائشة وكأن الأهم في خرافة المكان هو “هنا (في هذا المكان) يصنع الضحايا والجلادون الأشرار والطيبون، وهنا توزع الادوار القارة والعابرة” (ص 37). لا غَرْوَ إذن أن يتجدد المكان حسب طقوسية الأرواح التي تسكنه.ولا تفهم هنا كشكل مفارق لمادية وطبيعة المكان. ذلك أن المكان مسكون بخرافاته الخاصة والعامة. وهذا ما تحتفظ به أسطورة بعض الأمكنة في المتخيل الجماعي (ص 336). إن المدينة القديمة حافلة بحكاياها المتطايرة بين السماء والأرض. في تصوير لطيف لها يقول ” أمه (مالك السجين السياسي) لم تؤمن أبداً بمدينة خارج الأسوار، تقول عن الذين يسكنون ديور الجامع وأكدال وهما حيان راقيان في العاصمة إنهم يسكنون في “الخلاء والقفار”. الأسوار تمنح المكان هيأة كتاب يحيط به غلاف يحرسه. (ص 415).
ثمة مساحة شفافة بين أمكنة الرواية وإن كان المكان الجوهري فيها هو المكان المفقود. إلا أن البحث عنه محفوف بالمخاطر والأعطاب والمزالق. فمكان الكنز المخبوء في البيت القديم حمل الباحثين عنه إلى المخاطَرَة بعقولهم وحياتهم. مثلما كان سببا في اعتقال مالك حين أراد الكشف عن المقبرة الجماعية عند انتقاضة 1984؛ علامتان رئيسيتان تخترق أمكنة الرباط المتعددة في الظاهر والباطن. وتظلان رافعتين مركزيتين للرواية ككل. ذلك أن البحث عن الكنز والتحقيق الصحفي عن مجزرة الشمال سنة 1984 يحملان المغامرة والبطولة. فإذا كان الكشف عن المكان الثاني ثم توضيحه بجلاء (باعتقال مالك). فإنّ المكان الأول بقي سحريا ومتمنِّعا عن البيان. الشيء الذي ثم بمقتضاه خلق طبقات حكائية معجونة بالعجيب والغريب.
هكذا تتجادل الأدوار ويتعالق المكان بالزمان، ليحجبا عليه الأسماء ويفتحاها من جديد. وفي جدلية الحجب والظهور مساحة تحتفي بالمغلق مثلما تخلخل الأمكنة البعيدة التي يكون فيها مصير البلاد والعباد في سهرة طائشة.
ت-الداخل والخارج
ما انفك الكاتب يبين هذه الجدلية في تضاعيفها المختلفة، ليس لأن الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود – كما يقول المثل المغربي – وإنما لكون الداخل محجوب بعدد لا متناه من الأحجبة (كالمدينة القديمة، بيت شيمرات، البيت القديم، غرفة عماد في البيت الأول والسجن…) بينما يكون الخارج دليلا على ما وراء الأسوار. لقد حاولنا الحديث عن هذه الجدلية في بعض الأمكنة التي أثثت الرواية. والآن سنُضيء – هذه الجدلية – في السجن ربما لأنه موضوعة دالة عليها، مادام بنيانه المحروس بالبحر، والأسوار، والأبواب الحديدية، والأقفال .. تحيل على الداخل المحجوب والمستور. لكن ما الذي دفع كاتبنا تخصيص جزء مهم من روايته للسجن. هل هو تجلي من تجليات الاستبداد المغربي. أم هو مكان لمسرحة ما هو بالخارج. صحيح أن محمد الأشعري يعطي لهذه الموضوعة أهمية بالغة. إن لم أقل علامة فارقة في أعماله الأدبية الأخرى. لا نعني بذلك موضوعة السجن بل نعني بها جدلية الداخل والخارج، الظاهر والباطن، الحجب والتعري. وهي كلها مسميات لشيء واحد. فهو لا يقيم علاقته مع شخوصه في حياد مطلق/سلبي بقدر ما يرغب الكشف عن الجواني، والمخبوء في تلك الشخصية. وهذا واضح لانشغاله على الجانب السيكولوجي لشخوصه. وكأن سلوك هذه الشخوص في الرواية لا يظهر في مكانتها الاجتماعية، السياسية، ومواقفها وما إلى ذلك. بل فيما يحجبه اللباس، المكان؛ من هنا تحتل هذه الجدلية قيمة مائزة في هذا العمل. سنحاول تفكيكها في مكان دال عليها وهو السجن. ليس لأن هذا الأخير مكان تأديبي يروم فقدان الحرية درءاً لفساد الأمة. وإنما في قلب صورة السجن المنغرسة في الذاكرة الجماعية عبر تفكيك نظامه السلطوي. وتصوير تراتبيته الاجتماعية حسب نوعية الجرائم المرتكية. وهو بالجملة نظام يتطابق إلى حد كبير مع الخارج. ينسج الداخل العلائق بين أمكنته، وفضاءاته، وشخوصه إذ نجد امتدادا بين الخارج والداخل في صيغة الشخوص التي عشنا معها قبل اعتقالها كالفقيه الأمزميزي وثريا. بينما هناك آخرون أثثوا المكان، واخترقوا صمتهم من خلال دخولهم مسرح الرواية
كمالك، لهبيل، يوسف، طارق، باتريك، الخرموزي، النمرود، مرزوق…. بالإضافة إلى حراس السجن. كل شخصية من هؤلاء له حكاية، وكل حكاية تبتدئ من مصدر تواجدها في هذا المكان. ومن أجل الحياة وجب تأثيث هذا الفضاء بالحكايا، الصراع، وأشكال أخرى تبدد الرتابة وتحيي الأمل، وتشعل قناديل أخرى للكشف عن مقالب السجن. وتعرية نظام السلطة، وزعزعة الصمت المحايث للبحر. شخصية ملتبسة في الفضاء السجني بين كونه سجينا في الأول حين كان مقاوما، وسجانا. إنه شخصية أبا عمر المتأرجحة بين الداخل والخارج. في غموض لافت تضع لنا الرواية بورتريها خاصاً له في (ص108) والتي يعلن انتماءه لعالم الأشباح. إلا أنه في موقف آخر يتبدد بالغموض قبالة القائد الوطني عبد الرحيم بوعبيد حين أمر بإغلاق الزنزانة الذي كان معتقلا فيها رفقته والشهيد الحنصالي سنة 1944. هذا التأرجح الظاهر في فتح وإغلاق أقفال الزنزانة رقم 1، هو ما يشعل الذكريات بالحكايا. وفي تمنُّعه تنفيذ الأوامر يتم إبعاده إلى حدود تقاعده. بين سنة 1944 و سنة 1981 تؤسس هذه الشخصية فضاءها التخييلي للسجن كمكان ينظر إليه بعيون أخرى. أو بالأحرى فيما يقوله ” إن أكثر الأمكنة وحشة تستطيع أن تكون أمًّا رؤوماً، ومنذ تلك اللحظة لم يتوقف عن الاعتقاد بأنه انتهى من عالم الأحياء.” (ص 108) إنها شخصية غريبة تفتق صراعها الجواني مع المخبوء والمستور. يتعلق الأمر هنا بكفاحه ضد المستعمر وعلاقته بالقادة الوطنيين، والسجن الذي كان موظفا فيه، وعشقه اللامحدود لشيمرات ومتابعته لخبايا الكنز، وزواجه، وإنجابه لطفل في زمن متأخر من حياته في كل حالة من هذه الحالات يظهر هذا التأرجح بين الشيء ونقيضه، رافعا إيّاه إلى توثر نفسي إلى حدود طيران عقله، أو قتله. فغرابة هذه الشخصية تبحث عن أنثى ممكنة في بيت شيمرات. أو في قلب الذكريات، والخضوع إلى شكوكه القاتلة.. وهي على العموم لا زالت تعيش في سجنها. وكأن علاقته بالخارج لا تقوم إلا في الداخل. لقد أبدع الكاتب – بشكل كبير – في تحديد هذه الشخصية المتوثرة والمتأرجحة بين العتمة والضوء، بين الشك واليقين، في كل حكاية يكون فيها موجودا.
في المقابل ثمة شخوص سجينة تحاول الرواية بيان الراهن المغربي في أكثر تجلياته فسادا. أي في تلك الظواهر الاجتماعية التي طفت على السطح منذ نهاية السبعينيات كالغش، وسرقة المال العام. وشراء العفو، والتطرف الديني وما إلى ذلك، وهي كلها تحيل على جرائم أضحت عادية ومعقولة بالنسبة لعموم المغاربة. بمعنى أن الأشعري يقيس لنا تحول القيم لدى المغاربة في هذا الزمن. ولأن السجن مكان لصراع القيم وليس بالضرورة مصدرا للشرور. لذا ستكون فضاءات السجن بين النساء والرجال. في كل فضاء منهما تتولد غرائبية المكان، وتتجدد الحكايا، وتتغير رؤى الشخوص، وتتعالق، وتتعايش في أجلى تناقضاتها. ليس في نوعية الجريمة المرتكبة، ولا حتى في تراتبية الفضاء السجني. وإنما في الحمولة الاجتماعية، والسيكولوجية، والقبلية التي ينتمي إليها السجين ولعل التركيز على السينما والغناء لمسرحة الساحة السجنية هو ما يقدم لنا الدلالات العميقة لصراع القيم وتحولاتها في المؤقت المغربي. بين محمد عبد الوهاب والبعد التخييلي في حظوره الافتراضي داخل السجن. أي في إعادة تركيب الفيلم السينمائي المصري وجعله صورة متحركة خارج الكاميرا.
فغناؤه يعيد السجين إلى رومانسيته المفقودة، ويجعله قاب قوسين أو أدنى في تماس مع عمقه الوجودي. وبين ناس الغيوان في جذبتها المتحررة، وكلامها النفاذ، وجاذبية آلاتها الموسيقية. واشتراك الجميع في أداء الأغنيات البعيدة باحتجاج أصوات بوجميع، باطما، وعمر السيد… ضد القهر.
هكذا يكون الغناء مرآة تكشف التوثر الجواني بين الداخل والخارج. بين محمد عبد الوهاب الذي يرمي المستمع السجين لِلَمْلَمَة دواخله، وغناء ناس الغيوان الذي يفيد لا شعوريا إخراج الدواخل والرقص عليها إلى حدود الإغماء. إلا أن الكاتب أعطى لهذه الفرقة الغنائية حيزاً كبيراً في الرواية حتى أضحت نشازاً. فنستطيع بيان هذا التوثر بين هذين الشكلين من الغناء من خلال شخصية القرصان والنمرود . صحيح أن تأثيث الساحة السجنية بهذه الأشكال التعبيرية هو اختراق للخواء والصمت في السجن. إلا أن هذا الأخير يقلب جدلية الداخل والخارج بشكل مروع “واتضح لها (ثريا)” وهي تقول ذلك أن الحياة في السجن، باستثناء الوسخ والروائح الكريهة، تستحق أن تعاش، وأنه في نهاية المطاف هو المكان الأفضل لترويض النفس على قبول الكوارث التي تحدث خارجه كفسحة مسلية” (ص 276). بهذا المعنى يكون هذا القلب آلية دفاعية لقبول الوضع الجديد في الداخل. ولأنه عامر بالأوساخ وأشياء أخرى. فإن السجين يصارع أغلاله من أجل الحياة وفي صيغة أخرى يحمل السجين قيوده نحو الخارج. ” من السهل أن تغادر السجن، لكن إذا دخلته فلن تخرج منه أبداً. لأنه يصبح جزءاً من جسدك، أصابع غير مرئية تلمس بها العالم” (ص 240) .
إن التدقيق الوصفي لفضاء السجن بتجلياته المتعددة ينم عن معرفة كبيرة به. لا نحيل هنا على التجربة الشخصية للكاتب في بداية الثمانينات من القرن الماضي. وإنما في وضع السجن سؤالاً وجودياً يقوم على تفكيك نظامه الحديدي، والسخرية من ظلامه، وخلخلة المحجوب فيه إلى حد أن أضحى رواية “كأن السجن رواية ضخمة تؤممها الشخصيات من تلقاء نفسها وتصبح فيها أطرافاً لا غنىً عنها في هذا البناء العنيف من الداخل، والبالغ الرقة من الخارج، والذي لا يستطيع صوته مهما علا أن يطمس صوت المحيط” (ص230).
لا عحب إذن أن يكون السجن رواية لكون نزلائه يحملونها، يعلنونها تارة، ويتسترون خلفها تارة أخرى. فتعدد النزلاء وجرائمهم، وسنوات عقوباتهم ووضعهم السابق وأعمارهم، وجنسهم…الخ هو ما يعطي للمكان تراتبية، وهي تراتبية مقننة بين سجن الأحداث والحق العام والسياسيين والنساء… كل طبقة في علاقتها المتعددة تكشف لنا النظام الآلي للسلطة داخل وخارج السجن، بالإضافة إلى كونه مسكن الخرافة (الفقيه، ظهر الاسلام نموذجان لذلك) ومالك ومرزوق نموذجان بطوليان حيث الثاني يعيش بطولته بفرح عبر سرد حكايته من ألفها إلى يائها خالقاً اندهاش وتقدير وإعجاب الآخرين. بينما مالك يضع البطولة موضع سؤال حقيقي. وكأن الكاتب يريد بيان الأفق الممكن للمناضل في مرحلتين رئيسيتين من تاريخ الاستبداد السياسي في المغرب. إذا افترضنا ذلك. فإننا سنتحصل على مستويين من الاعتقال السياسي في النضال المسلح والحكايا العجيبة المتناسلة منه، والنضال المؤَسَّس على مرجعيات ايديولوجية أخرى ” كالمثقف العضوي” الذي يمثله مالك. هذا المثقف المشاكس للمخزن من خلال فضح أكاذيبه الإعلامية، والتحقيق في المجزرة التي ارتكبها النظام في شمال المغرب سنة 1984 والمرفوع بأحلام التحرر من كل شيء قائم، تحرير الجسد من مكبوتاته، وتحرير الكتابة من الرقيب، وتحرير اسطورة البطل من التداول الثقافي المغربي. وتحرير الرسائل إلى عشيقته الأولى هُدَى وعشيقته المفترضة داخل السجن ثريا. ولأن الأمر كذلك، فإنه يقوم بقلب الداخل والخارج. بينما لحسن مرزوق شيد سجنه بنفسه وعاش فيه مدة زمنية (14 سنة) ليحتفظ بأسطورة البطل. هكذا تتبدى هذه الجدلية وتختلف الرؤية إليها من شخصية إلى أخرى حسب الموقع الذي تحتله في الرواية. إن “علبة الأسماء” تفتح لنا هذا الداخل ليكون خارجاً والعكس صحيح تماماً. وكأنهما متلازمان. لا يمكن النظر إلى الواحد دون حضور الآخر لتكون العلبة رسالة موحية، والتي ستكون شاهدة على الزمن المغربي المعاصر.
يمكننا الاستدلال على ذلك انطلاقا من مغامرة مالك الغرامية مع هدى وفيما بعد مع ثريا، وبالضبط في (ص267) حيث يكون الخارج (هدى) واقعيا. بينما يتشكل السحري الداخلي مع ثريا. هذه المرأة التي يتخيلها ويبني حكايته معها رغبة في العودة إلى المدينة القديمة/ الأم، وبين الواقعي والسحري يسبح مالك في القراءة والكتابة.
ث-الكتابة: انفلات المعنى من نقيضه.
“علبة الأسماء” هي لعبة الكتابة. ولأنها لعبة. فإنّها تظل مؤجلة. كيف نفهم الكتابة باعتبارها تأجيلاً للبوح؟ هل المسألة شرطٌ من شروطها. أم أنها العتبة الأولى لكل كتابة ممكنة. وهل هذه الأسئلة التي تطرحها الرواية هي أسئلة لكاتبها. وليس لشخوص الرواية. ها نحن نقترب من الممكن الذي فتحه الكاتب وفي اقترابنا تبتعد الكتابة وتتأجل، وكأن الكاتب يهدي لكتاب آخرين تخييل عالم روائي يكسر ما لم تكتبه ثريا والخرموزي ومالك. ثلاث شخصيات تقيم طقوس الكتابة وتؤجلها، هنا ينفلت المعنى من اللامعنى. ليظل هذا الأخير هو القيمة الرامزة لفعل الكتابة عند محمد الأشعري. وهو انفلات مدهش بين البحر والأرض. أي في تلك الآثار التي تشققت بفعل المد والجزر. بهذا المعنى تكون “علبة الأسماء” لعبة الكتابة. وبهذا المعنى كذلك يكون المؤجل ثابتاً بنيوياً في المؤقت المغربي في مستوياته الدلالية المتعددة. الكتابة إذن تحتفي به وتقيم شهادة عليه. لا لتذكره وإنما في نسيانه المنفلت هو العلامة الفارقة في هذا النص الروائي. الشيء الذي يتم بمقتضاه العبور نحو الممكن، أي نحو الذي يكون أولا يكون. فثريا مثلاً تريد كتابة السيناريو لمسلسل تلفزيوني مغربي يبكي المغاربة. والخرموزي يريد كتابة سيرته بقلم باتريك. ومالك منشغل في تأثيث هواجسه. وتاريخ سلالته وأحلامه وعلاقته مع آخره. لكتابة رواية وخديجة تكتب الرسائل بقلم ثريا ثم ترسل بياض الورقة إلى لهبيل هكذا تتعدد مواقع الكتابة بتعدد اللسان، والأقلام والمواقع.. إلا أن غرابتها تكمن في نية أصحابها. كما علاقة لهبيل وخديجة الراغبان في ترسيم علاقتهما داخل السجن وأجرأة الوصل الممكن بينهما كالإبرة والخيط تماماً. الشيء الذي سيرفع الاستيهام إلى درجة قصوى. ليس فيما يتعلق بثريا التي تتخيل أحداث كتابة السيناريو من خلال تجربتها الحميمة، وحكايا المحيطين بها. وإنما في ما وقع للخرموزي مع باتريك. والمضاعفات التي خلفها هذا الأخير من تبديد الوهم (وهم الكتابة)، والفرضيات التي افترضها صاحبها كإقبار المخطوط، او إحراقه أو الاحتفاظ عليه في مكان ما.
تكشف لنا هذه العلاقة الحدود الفاصلة بين الشفهي والكتابة مثلما تومئ لنا سؤال من يكتب. هل الخرموزي هو الكاتب أم باتريك. يتقاطع الراوي بالكاتب إلى حدود اتقاد خيال الثاني عبر الابتعاد عن الأصل. وفي لعبة النسخ والأصل يحلم الخرموزي بالضحية الإعلامية التي ستخلفها سيرته. مثلما يرغب الناسخ / الكاتب من جعل اسمه متداولاً في الإعلام الفرنسي والعالمي. إلا أن هذا الحلم سرعان ما تبدد وانمحى بعد موت باتريك وضياع المخطوط كنزاً آخر يختفي دون سبيل للوصول إليه ليظل مرغوباً فيه في ثقافة الغرب و” الأجانب يعرفون تسويق مثل هذه الأمور لأنهم ي حبون ضحايا صدام الثقافات” (ص 339). إذا كان المخطوط المبتور للكنز المخبوء في بيت شيمرات القديم، فتح التأويل لإعادة كتابته. فإن سيرة الخرموزي أضحت في خبر كان، وأضحى ممكناً. تتبدى العلاقة في وضوح كبير وبالضبط في المضاعفات التي تركاها في الجسد (موت البودالي، اعتقال الفقيه، طيران عقل ابا عمر، وموت باتريك، وتيهان الخرموزي، وسخرية النمرود، وعجز مالك كتابة الرواية المفقودة)
لكن في المقابل نجد الأسئلة الحقيقية للكتابة عند الأشعري، أو هو تقارب بين الشخصيتين. ربما سأكون خارج السياق حينما قلت ذلك. بينما الجميع شاهد، ومنذ زمن بعيد، موت المؤلف وربما هو الفضول المغربي الذي يسكننا، هو الدافع للتلصص على الشخصيتين معا، إذا افترضنا ذلك فنحن بالكاد أبعد من الرواية، لذا أترك المتلصص فيَّ مقتفيا نهاية المؤلف. وأضع شخصية مالك القريبة منا في الزمان والمكان. والمتحدثة عن جيلنا موضع سؤال. ذلك لأنه هو الذي استطاع تلحيم جزئيات النصف الثاني من الرواية. بل أكثر من ذلك هو الذي تمكن من قلب جدلية الداخل والخارج.
فهذه الشخصية (مالك) تدخل تجربة الاعتقال السياسي دون أن تخلق بطوليتها. ولكون سبب اعتقاله كان سببه قتل عمه في المظاهرة الاحتجاجية في شمال المغرب سنة 1984. الشيء الذي دفعه في المعتقل إلى كتابة رواية عن عمه المدفون في المجهول. لقد ” كان مالك يود أن يستغل ما عرفه في الناظور ليكتب الشيء الذي كان يريد كتابته منذ البداية، أي قصة تلك العائلة الريفية التي انتشرت في أرض الله الواسعة منذ حرب الريف” (ص 364). بهذا المعنى تكون الكتابة ألماً. مثلما تكون تحريراً له حين يكون الممكن فعلاً. إلاّ أنّ مفعولات الكتابة تتأرجح بين القبول والرفض، بين الداخل والخارج. وفي صيغة بين بين، يسلم لنا مالك صورته القلقة. ورؤيته للعالم “يتصور مالك أن حياته ستتحول عند خروجه إلى سلسلة من البدايات لا تصل إلى نهاية. يبدأ بالتفكير في انتقام صاعق ولا يشرع فيه أبداً، ويبدأ قصة غرام لا يتجاوز عتباتها، ويستعيد قصةً نائمةً، ثم يهرب منها قبل استعادتها، يمشي نحو النهر ويرجع قبل ظهور خيطه الفضي، يذوب في أزقة المدينة، ثم يتوقف قبل التلاشي، ويتحول إلى حجارة في سور قديم يذهب إلى البحر، ويتأمل من شاطئيه عذوبة المبنى الذي يحضن جحيماً لسبع سنوات. لا يتوقع أحداً أبداً ما تستطيع بناية جميلة اقترافه من فظاعات في دواخلها المحجوبة، يبدأ الكتابة ويتوقف
التعاليق