إفادة الثلاثاء 29 مايو 2018 - 01:19

عبد الحميد الغرباوي: مامادو غاساما.. سبايدر مان الإفريقي

عمري أربع سنوات..
منذ ساعات، كنت طفلا صغيرا، صغيرا درجة أن وجودي في الحياة يقدر بسنوات أربعة، وهي سنوات، بكل تأكيد، لا تؤهل إنسانا لكي يعتمد على نفسه في تصريف أمور حياته، ولا تمنحه القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، وبين ما يجب و ما لا يجب.. 
منذ ساعات، كنت أعد إلى عشرة، ثم تختلط علي الأرقام، وأقفز في العد، رغبة في تحدي ذاكرتي الصغيرة، كي أصل إلى العدد عشرين..
وكان علي، مثل كل الأطفال، من هم في مثل سني، أن أنتبه جيدا إلى ما يفعله الكبار، و إلى ما يطلقونه من عبارات..و أطرح السؤال تلو السؤال حول ما أراه وما يحدث حولي، كي أكبر سريعا..
كي يكبر عقلي، أعتمد على قوتي الذاتية، وأصير سيد أفعالي واختياراتي، متحررا من رقابة والدي..
منذ ساعات لم أكن أفكر هكذا.. 
أنا الذي لم يمر على فصلي عن صدر أمي والتخلص من الحفاظة الذي كانت تعرقل خطواتي، سوى سنتين..
لكني الآن، كبرت..
و لن أبالغ إذا ما قلت أن شعر رأسي كاد يشيب..
حدثت هذه القفزة العمرية، لما أردت أن أتشبه بأولئك الرياضيين المغامرين الذين يقفزون من سطح إلى سطح و يسيرون على حافات العمارات ، كنت معجبا بخفتهم ورشاقتهم، وأنا أتابعهم على شاشة التلفزيون، ولم أكن على علم بالخطورة الكامنة خلف تلك الحركات..
أذكركم، كنت صغيرا..
الآن، لم أعد صغيرا، بعد أن ظل جسمي متدليا في الفراغ لوقت بدا لي زمنا طويلا..
يمكن لي أن أقول الآن، إنه عمر طويل.. بل سلسلة طويلة من السنوات..
ما استغربت له، هو تلك القوة التي قُدر لأصابعي أن تكتسبها كي تظل قابضة بحافة شرفة الطابق الرابع، متحملة ثقل جسدي..
سمعت أحدهم يعلق بقوله: إنها الرغبة اللاشعورية في الحياة..
لكن الحياة، لم تكن تعني لي شيئا..
ما معنى الحياة؟.. 
أنا، كانت رغبتي، وأمنيتي، أن أخرج فقط.. 
أخرج من الشقة التي تركني أبي فيها وحيدا..
أجلسني على الكنبة بعد أن أشعل لي التلفزة وخرج لقضاء بعض المآرب..هذا ما أخبرني به..قال لي إنه لن يغيب طويلا.. و سمعته ينطق غضبا بكلمة تطاير لها رذاذ ريقه ويختمها باسم أمي التي لم أرها منذ تسعة أيام…
وغاب طويلا، ولما شاهدت على شاشة التلفزيون أولئك الرياضيين يقفزون من بناية إلى بناية و يتسلقون طوابق العمارات مثل سبايدر مان، التفت إلى الشرفة وقررت أن أفعل مثلهم و أنزل إلى الشارع.. 
نعم، نعم، لم أفكر في فارق العمر بيني وبينهم، ولم أكن أعلم مدى الخطورة الكامنة خلف فعلتي المجنونة.. 
هل أذكركم مرة أخرى أني كنت صغيرا..
و أنا متدل في الفراغ، حدث لي شيء عجيب.. 
صرت أميز بين الصواب والخطأ، وبين ما يجب و ما لا يجب..
و عددت الأرقام من واحد إلى عشرين دون ارتباك أو قفز على بعضها..
أقول لكم، لم أكن أعد الأرقام بل كنت أعد الثواني..الثواني الفاصلة بين الحياة والموت..
و أحسست بيد قوية تخطفني من الفراغ..
يد سوداء..
كانت يد منقذي..
الإفريقي الأسود..
سبايدر مان، هو الذي أنقذني.. 
لكنه لم يكن يرتدي بذلة سبايدر مان الآخر، الأبيض، الذي شاهدته في الفيلم..
أيهما حقيقي؟..
سبايدر مان الإفريقي، تسلق الطوابق الأربعة في سرعة، وانتشلني من الفراغ
لم أجبه لما سألني لاهثا: ” لم فعلتَ ذلك؟” ..
في ثوان معدودات أصبح بطلا..
بطلا عالميا، تتناقل سيرته وكالات الأخبار العالمية..
لكن، ألست أنا أيضا بطلا؟..
ألم أكن معلقا في الهواء و يداي وحدهما كانتا تقاومان الجاذبية؟..
علمت أن منقذي كان دون أوراق إقامة، وبفضلي استقبله الرجل الأول في البلاد، وهنأه على شجاعته، وإنسانيته التي دفعته إلى إنقاذ روح إنسان صغير، وأنه وشحه بوسام استحقاق ذهبي، و سلمه شهادة التضحية في سبيل الآخر، ومُنح أوراق إقامة، و سيُلحق بالجهاز المدني لرجال الإطفاء، وعما قريب سيتمتع بكامل حقوق المواطنة التي يتمتع بها مواطنو البلاد الأصليون …
ألست أنا البطل الأول؟
أنا الذي كنت السبب في كل ما تحصَّل عليه هذا الشاب الشجاع من امتيازات..
لكن المحزن أن والدي مهدد بالسجن بتهمة إهمال طفله الصغير..
آسف يا والدي..
لكني أطمئنك، كبرت الآن، صرت أعرف ما معنى أن تحيا، صرت أعرف معنى الحياة..

التعاليق

المزيد من سياسات دولية

تلفزيون الموقع

تابع إفادة على:

تحميل التطبيق