إعداد: عبد القادر الصحراوي
لقد مر بنا جميعا في قراءاتنا التاريخية، عن الحروب الصليبية، أو عن عصر صلاح الدين الأيوبي بالذات، أو عن حياة الملك المغربي الموحدي، يعقوب المنصور أن صلاح الدين الأيوبي في غمرة الحروب الصليبية، وعندما كان محاصرا للإفرنج الذين كانوا محاصرين للمسلمين في عكا، فكر في أن يستنجد بالملك المغربي يعقوب المنصور، وأنه بعث إليه بالفعل وفدا يطلب منه أن يمده ببعض قطع أسطوله البحري، فقد كان للمنصور أسطول بحري هائل، على حين كان المسلمون عموما في الشرق يشكون من ضعف قوتهم البحرية، الأمر الذي لم يكونوا يستطيعون معه أن يقفوا في وجه هذا الزحف البحري الهائل، المتوالي على الشرق الإسلامي من فرنسا وإنجلترا وألمانيا وغيرها من الدول الأوربية.
ومر بنا أيضا في قراءاتنا التاريخية أن الملك المغربي يعقوب المنصور، لم يستجب لرغبة صلاح الدين، ولم يبعث إليه أسطولا، ولم يحرك من أجله ولا من أجل المسلمين جميعا في الشرق ساكنا، وذلك لسبب واحد اتفق عليه جميع المؤرخين الذين أوردوا قصة هذا الاستنجاد، ذلك السبب هو أن صلاح الدين لم يخاطب يعقوب المنصور بلقب: أمير المؤمنين.
لم يرد ذكر لقصة هذا الاستنجاد في كتاب المعجب لعبد الواحد المراكشي الذي كان معاصرا لدولة الموحدين، وإنما ورد ذكرها في هامش الطبعة الأخيرة منه، طبعة مصر عام 1949، وقد ورد في هذا الهامش ما نصه:
«قال أهل التاريخ: وفي بعض هذه الحملات أحس صلاح الدين الأيوبي صاحب عرش مصر والشام بحاجته إلى معونة المسلمين في المشرق والمغرب على رد عادية الصليبيين على بلاده، فأرسل الرسل والكتب إلى أمراء المسلمين هنا وهناك، وكان فيمن أرسل إليه صاحب عرش المغرب والأندلس من أمراء الموحدين -يعني يعقوب المنصور- وسماه فيما كتب إليه أمير المسلمين، قالوا: فغضب ملك مراكش إذ لم يسمه صلاح الدين، أمير المؤمنين، ولم يستجب لندائه».
وجاء بعد عبد الواحد المراكشي مؤرخ مغربي آخر، هو ابن خلدون، الذي أورد القصة وإن كان لم يعللها، فقال في معرض الحديث عن الرسول الذي أرسله صلاح الدين إلى يعقوب المنصور، قال:
«وبعثه إلى المنصور بهدية، ووصل إلى المغرب، ووجد المنصور بالأندلس، فانتظره بفاس إلى حين وصوله، فلقيه وأدى الرسالة، فاعتذر له عن الأسطول»
ثم جاء صاحب الاستقصا، فأورد القصة بتعليلها التاريخي المعروف، فقال:
«ولما وقف عليه المنصور -أي لما وقف المنصور على كتاب صلاح الدين- ورأى تجافيهم فيه عن خطابه بأمير المؤمنين، لم يعجبه ذلك، وأسرها في نفسه، وحمل الرسول على مناهج البر والكرامة، ورده إلى مرسله، ولم يجبه إلى حاجته».
ثم ننتقل من المؤرخين المغاربة إلى غيرهم، فنجد أن المؤرخين الذين أوردوا هذه الحادثة إلا قليلا منهم، أوردوها تقريبا بنفس الأسلوب الذي وردت به في كتب المؤرخين المغاربة، من غير محاولة لتحقيقها، أو للبحث عن أسباب أكثر معقولية، لتقاعس المنصور في موطن لم يكن يظن فيه من مثله أن يقف مثل هذا الموقف السلبي، وفي حرب كهذه، سواء اعتبرناها حربا دينية، كما يوحى بذلك اسمها، وكما عرفت بذلك في التاريخ، أو حربا عدوانية توسعية استعمارية كما قد يبدو لنا بعد حين.
وهذا أبو شامة المقدسي، مثلا، في كتابه (الروضتين في أخبار الدولتين) في الجزء الثاني الذي خصصه للحديث عن حياة صلاح الدين الأيوبي، يقول عند ذكر قصة هذا الاستنجاد ما نصه:
«لم يحصل من جهة سلطان المغرب ما التمس منه من النجدة، وبلغني أنه عز عليهم كونه لم يخاطب بأمير المؤمنين، على جاري عادتهم».
حتى المؤرخون المحدثون، المنهجيون، لم يزيدوا شيئا على ما ورد في الكتب القديمة، فهؤلاء الأساتذة الدكتور فليب حتي، والدكتور إدوارد جرجي، والدكتور جبرائيل جبور، في كتابهم المطول: تاريخ العرب، يقولون في معرض الحديث عن يعقوب المنصور:
«وهو الذي استنفره صلاح الدين، وأرسل إلى بلاطه وفدا يرأسه رسول من أقارب أسامة بن منقذ، ومعه هدايا ثمينة، يستنجده على الفرنج الواصلين إلى الديار المصرية، وساحل الشام، ولما كان صلاح الدين يقر بخلافة العباسيين فرسوله لم يخاطب أبا يوسف -يعقوب المنصور- بأمير المؤمنين، بل دعاه أمير المسلمين، فعز ذلك على أبي يوسف المنصور، ولم يجبه إلى ما طلبه».
على أن هنالك زيادة، نجدها في هذا الكتاب، كما نجدها في غيره، تفيد أن يعقوب المنصور، عاد بعد ذلك فجهز قطعا من الأسطول لإنجاد صلاح الدين، أو لاعتراض طريق الغزاة الأوربيين في البحر الأبيض المتوسط للحيلولة بينهم وبين الوصول إلى مصر أو سورية أو فلسطين. أورد هذه الزيارة ابن خلدون وصاحب الاستقصا بنص واحد، هو قولهما معا بالحرف:
«ويقال إنه جهز له بعد ذلك مائة وثمانين أسطولا، ومنع النصارى من سواحل الشام، والله أعلم».
وجاء الدكتور حتي وزميلاه، فلم يزيدوا على أن حذفوا كلمتي: الله أعلم، وصاغوا هذه الزيادة صياغة أقرب إلى فهم القراء المعاصرين، وذلك حيث يقولون في كتابهم تاريخ العرب:
«ويقال إنه جهز له بعد ذلك أسطولا من مائة وثمانين قطعة، لمنع النصارى من شواطئ الشام».
ومهما يكن، فإنني في حدود قراءاتي التاريخية الخاصة، لم أستطع أن أتأكد من صحة هذه الزيادة، أعني من صحة أن يعقوب المنصور عاد بعد ذلك فجهز أسطولا لإنجاد العرب والمسلمين في الشرق، وكم كان بودي أن أتأكد من صحتها، لأرفع عن ضميري هذا العبء الثقيل الذي أنوء به، حتى لكأنني مسؤول عن موقف المنصور الموحدي، هذا الملك العظيم الذي كنا نريد له أن يتوج عظمته بمحو هذه الوصمة التاريخية، ولكن، ماذا أفعل وأنا محصور بين كتب تاريخية تورد هذه الزيادة بين قوسين، أحدهما: يقال، وثانيهما: والله أعلم، وبين كتب أخرى لا تقول شيئا في الموضوع بالمرة، إما لأنها لم تسمع به، وإما لأنها غير متأكدة من صحته، وإما لأنه لم يقع إطلاقا، وهذا الذي أرجحه أنا شخصيا وإن كانت أدلتي في هذا الترجيح حتى الآن كلها سلبية، أي أنها لا تعدو اعتبار الشك المخيم على عبارة المؤرخين الذين أوردوا هذه الزيادة بالتقليد والمناقلة، واعتبار صمت المؤرخين الآخرين أيضا، وأرجو أن أعثر، أو أن يعثر غيري في المستقبل، على ما ينقص من قيمة هذا الترجيح، أو ينقضه.
أما الذي بين أيدينا حتى الآن، والذي لا سبيل إلى الشك فيه، فهو أن صلاح الدين استنجد بيعقوب المنصور، فلم ينجده، لأنه لم يخاطبه بأمير المؤمنين.
على أن هنالك كاتبا مغربيا آخر، وفق إلى أن يفتح في هذا الباب فتحا جديدا، ذلك هو الأستاذ عبد المجيد بن جلون، في كتابه: (هذه مراكش) فإنه لم يكتف عند ذكر قصة هذا الاستنجاد، بأن يوردها عارية من كل تعليق أو حكم، أو أن يكتفي بالتعليل التاريخي التقليدي المعروف، وإنما وجد لموقف المنصور تعليلا آخر له نصيبه الكبير من الصحة، كما أنه لم يتردد في أن يحكم عليه، في صراحة وشجاعة تحمدان له.
يقول الأستاذ ابن جلون، في كتابه “هذه مراكش”:
(ولكن يعقوب المنصور أخطأ خطأ كبيرا حينما أرسل إليه صلاح الدين الأيوبي يطلب مؤازرة أسطوله، وإقفال البحر الأبيض المتوسط في وجه الأساطيل الأوربية، في طريقها إلى بيت المقدس، ويعلل المؤرخون ذلك بأن صلاح الدين لم يخاطبه بلقب أمير المسلمين، ونرى نحن أن لهذا الرفض علاقة ببعض الحروب التي قامت على حدود الموحدين الشرقية، ولو أقدم المنصور على إقفال البحر الأبيض المتوسط، وكان أسطوله من أقوى الأساطيل الإسلامية، لكان من الممكن أن يغير مجرى التاريخ العربي).
هذا ما ورد في كتاب الأستاذ ابن جلون، ولعله يقصد بقوله: لم يخاطبه بأمير المسلمين، لم يخاطبه بأمير المؤمنين، ومهما يكن فهذا تعليل جديد لموقف المنصور، وإن كانت طبيعة كتاب (هذه مراكش) لم تسمح لمؤلفه بشرح فكرته شرحا كافيا أو محاولة التدليل عليها، فقد وضع الكتاب للتعريف بالمغرب كله، ماضيه وحاضره، ومشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها، وذلك ما لا تتأتى معه الإفاضة والتحليل.
الآن وقد أوردنا بعض ما أمكننا الوصول إليه من النصوص التاريخية في الموضوع، نريد أن نعود إلى الوراء قليلا، لنلقي ضوءا أكثر على هذه الحادثة التاريخية، ولنشرح ظروفها وملابساتها، ولنبحث عن بعض تفاصيل هذه السفارة وأسباب إخفاقها، لا لننتحل عذرا للمنصور، فإننا لا نتردد في أن ندينه منذ البداية؛ لقد أخطأ، ولن يمنعنا اعتزازنا بتاريخنا من أن نسجل هذا الخطأ. إن التاريخ غير الملاحم، فنحن لا نقرأه … لننتشي من عظمة الأجداد، ونلتذ بالإحساس بالفخر بهم، وإنما نقرأه أولا وقبل كل شيء، لنعرفه، لنعرفه على حقيقته ما أمكن، ثم لنستمد العبرة منه، من خطأ إبطاله ومن صوابهم، من إحسانهم إذا أحسنوا، ومن إساءتهم إذا أساءوا، وقد أحسن المنصور في أشياء كثيرة جدا، ولكنه أساء في هذه، ورحم الله الشاعر الذي كان يقول:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبـه
- الجزء 2
استعرضنا في الفصل السابق بعض ما أمكننا الوصول إليه من النصوص التاريخية الواردة في موضوع استنجاد صلاح الدين الأيوبي بيعقوب المنصور، وهي تتلخص في أن صلاح الدين في غمرة الحروب الصليبية، وعندما كان محاصرا للإفرنج الذين كانوا بدورهم محاصرين للمسلمين في عكا، استنجد بالملك المغربي يعقوب المنصور، فلم ينجده، لأن صلاح الدين لم يخاطبه في كتابه بأمير المؤمنين، ووعدنا أن نعود إلى الوراء قليلا لنشرح ظروف هذه الحادثة التاريخية، وملابستها، ولنلقي عليها ضوءا أكثر ولنقول رأينا في هذه الحروب التي عرفت في التاريخ باسم الحروب الصليبية :
فلنعد إلى الوراء إذن، ولنبدأ الرحلة من حيث كان يجب أن تبدأ، من مدينة كليرمونت في الجنوب الشرقي من فرنسا، وفي اليوم السادس والعشرين من شهر نونبر عام 1095 ميلادية.
نحن الآن في مدينة كليرمونت، نستمع إلى أعظم خطبة في تاريخ الإنسانية، خطبة يلقيها رجل من رجال الدين لا ليدعو الناس إلى السلام، ولا ليدلهم على الطريق إلى الله، ولكن ليعلن بها رسميا مولد حرب عالمية عاتية، تستمر مائة وستا وتسعين سنة، من سنة 1095 إلى سنة 1291.
ذلك الرجل هو البابا أربانوس أو [أوربانوس] الثاني، وهؤلاء القوم المحيطون به، يستمعون إلى خطبته، فيصمتون أحيانا كأنما على رؤوسهم الطير، ويتشنج بعضهم بالبكاء، ويغلي حماس بعضهم الآخر، فيرفع عقيرته بالهتاف والوعيد والإنذار، هؤلاء القوم هم خليط من السوقة، والأشراف، والأمراء الإقطاعيين، يحلم بعضهم بالمغفرة، ويحلم بعضهم بالغنى والفتح، ويحلم بعضهم الآخر بمغامرات ينسى فيها بؤسه وفقره ومشاكله، فلنستمع مع هذا الخليط إلى البابا أربانوس ولنتخذ من خطبته هذه نقطة انطلاق لموضوعنا الذي نريد أن نعالجه :
(أيها الجند المسيحيون، لقد كنتم دائما تحاولون من غير جدوى إثارة نيران الحروب والفتن فيما بينكم، أفيقوا فقد وجدتم اليوم داعيا حقيقيا للحرب.
لقد كنتم سبب انزعاج مواطنيكم وقتا ما، فاذهبوا الآن وأزعجوا البرابرة، اذهبوا وخلصوا البلاد المقدسة من أيدي الكفار.
أيها الجند، أنتم الذين كنتم سلع الشرور والفتن، ألا هبوا وقدموا قواكم وسواعدكم ثمنا لإيمانكم.
إنكم إن انتصرتم على عدوكم كانت لكم ممالك الشرق ميراثا، وإن أنتم خذلتم فستموتون حيث مات اليسوع، فلا ينساكم الرب رحمته، فيحلكم محل أوليائه.
هذا هو الوقت الذي تبرهنون فيه على أن فيكم قوة وعزما وبطشا وشجاعة، هذا هو الوقت الذي تظهرون فيه شجاعتكم التي طالما أظهرتموها في وقت السلم، فإذا كان من المحتم أن تثأروا لأنفسكم، فاذهبوا الآن واغسلوا أيديكم بدماء أولئك الكفار.
يا قوم إذا دعاكم الرب اليسوع إلى مساعدته، فلا تتواروا في بيوتكم متقاعدين، ولا تفكروا في شيء إلا فيما وقع فيه إخوانكم المسيحيون من الذل والهوان والمسكنة، ولا تستمعوا إلا إلى القدس وزفراته، واذكروا جيدا ما قاله لكم المسيح: ليس مني من يحب أباه وأمه أكثر من محبته إياي، أما الذي يترك بيته ووطنه وأمه وأباه وزوجه وأولاده وممتلكاته ومقتنياته حبا في، ومن أجلي، فسيخلد في النعيم، وسيجزيه الله الجزاء الأوفى).
هذه فقرات من الخطبة التي وصفها غير واحد من المؤرخين، بأنها كانت أعظم خطبة في تاريخ الإنسانية، ولعلنا لا نجد في ذلك مبالغة إذا أدخلنا في اعتبارنا النتائج الهائلة التي نتجت عنها.
لقد كانت هذه الخطبة إعلانا رسميا للحروب المعروفة في التاريخ باسم الحروب الصليبية، لأن المشاركين فيها من المسيحيين كانوا يحملون على أذرعهم صلبنا، وقد استمرت هذه الحروب قرنين من الزمان، كانت تتخللها فترات من الهدوء والهدنة، لكنها لم تكن في الحقيقة إلا فترات استجمام واستعداد، يشحذ فيها كل فريق سلاحه، ويدبر أمره، ويهيئ نفسه للمعركة المقبلة.
وبقطع النظر عن المعنى الحقيقي الكبير لهذه الحروب، وعن عدد الضحايا الذين سقطوا فيها من المعسكرين، وعن عدد الدول التي اشتركت فيها، فقد كانت لها إلى جانب كل ذلك نتائج لا تقل أهمية، لقد كانت أكبر احتكاك تاريخي بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، وكانت طريقا من الطرق الرئيسية، إن لم تكن أكبرها جميعا، لنقل حضارة الشرق وعلومه ومعارفه إلى الغرب.
فهل كانت هذه الحروب دينية، كما يضفي عليها ذلك اسمها الذي عرفت به في التاريخ، وكما يضفيه عليها أيضا كون دعاتها كانوا هم رجال الكنيسة، وأن الأساس الذي كانوا يستندون عليه في إثارة حماس الجماهير، هو الرغبة في تخليص قبر السيد المسيح من أيدي الكفار والبرابرة ؟؟
نحن لا نستطيع أن ننكر العامل الديني في هذه الحروب، ولا نستطيع أن ننكر أيضا أن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمره، في إحدى نزواته التي لم يسلم منها المسلمون ولا النصارى ولا اليهود على السواء، قد أقدم فيما أقدم عليه، على هدم كنيسة القيامة، وقد ألحق بعض الأضرار بالحجاج النصارى الذين كانوا يقصدون قبر السيد المسيح عليه السلام، ومع ذلك، أي ومع اعتبار السيد المسيح عليه السلام، ومع ذلك، أي ومع اعتبارنا للعامل الديني في هذه الحروب، فإننا لا نستطيع أن ننظر إليه في ضوء الحقائق التاريخية، إلا على أنه عامل ثانوي أحسن استغلاله، أما الحروب الصليبية فلم تكن في الحقيقة – كما يقول المؤرخ الإنجليزي استيفن سن – إلا حملات عسكرية لتأسيس إمارات لاتينية في سورية وفلسطين. أي أنها كانت حربا استعمارية، لا تختلف في بواعثها ولا في أهدافها عن الحملات العسكرية الغربية التي جردت في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي على مصر وسورية والعراق وبلاد المغرب العربي.
كانت حربا استعمارية توسعية، تحمل معها منذ البداية بذور انحلالها وانهزامها، فبالرغم من الظفر المؤقت الذي أحرزته، لم يكد يستتب الأمر للأمراء اللاتينيين في الشرق، وتتم لهم الغلبة، حتى شرعوا يتطاحنون فيما بينهم على العروش والتيجان والممالك والمستعمرات ويكيد بعضهم لبعض، ويخون بعضهم بعضا، بل يستعين عليه بالتحالف مع الأمراء المسلمين.
وهذا مؤرخ آخر، هو الدكتور فليب حتي، يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول:
(إذا نظرنا إلى الحروب الصليبية في وضعها الصحيح وجدناها فصلا متوسطا بين فصول تلك القصة الطويلة، قصة التفاعل بين الشرق والغرب، مبتدئة بحروب طروادة وفارس في الأزمنة الغابرة، ومنتهية بالتوسع الاستعماري الأوربي في عصرنا هذا).
ومالنا نذهب بعيدا، وهذا الجنرال أللنبي الذي كان مفوضا ساميا لإنجلترا في مصر، والمعروف بقيادته لحملة الحلفاء على فلسطين في الحرب العالمية الأولى، يؤثر عنه أنه قال عند استيلائه على بيت المقدس كلمته التاريخية المشهورة: (الآن فقط انتهت الحروب الصليبية).
نحن لا نستطيع أن نؤكد أن الجنرال أللنبي كان مسيحيا مؤمنا إلى الحد الذي توحي به كلمته هذه، ولكن الذي نستطيع أن نؤكده منها أنه يعتبر انتصاره على الأتراك في فلسطين خاتمة للحروب الصليبية، فإذا كان ذلك صحيحا فقد كانت الحروب الصليبية، في فهم الجنرال اللنبي نفسه، حربا استعمارية توسعية مائة في المائة، لا تشوبها شائبة من قريب ولا بعيد، وذلك لأن خاتمتها التي هي انتصار الجنرال أللنبي في فلسطين لم تكن دينية، ولا ما يشبه أن يجعلها دينية، وإنما كانت توسعية استعمارية كما لا يستطيع هو نفسه ولا غيره من الناس أن ينكر.
لقد كان على الجنرال أللنبي – لكي يعبر عن حقيقة شعوره – أن يقول: الآن فقط انتهت الحروب التوسعية التي أعلنت في مدينة كليرمونت بفرنسا عام 1095.
لكن تعبيره على ما هو عليه كان أجود، وإن لم يكن أصح، وهو الذي أعطى لكلمته تلك النصاعة التي ضمنت لها أن يحفظها التاريخ، وأن يرددها الناس.
نحن إذن، أمام حرب استعمارية توسعية، لا أمام حرب دينية كما يوحي بذلك لفظ الصليب الذي نسبت إليه، أما كون الدعاة إليها كانوا هم رجال الكنيسة، فإنما كان ذلك، لأن غيرهم لم يكن يملك في ذلك الوقت أن يدعو إلى حرب عالمية كهذه، فقد كانوا هم وحدهم أصحاب السلطة الدينية والمدنية، يطردون من شاؤوا من رحمة الله، ويحكمون عليه باللعنة، نعم كان يوجد إلى جانب رجال الكنيسة بعض الأمراء الإقطاعيين، لكن سلطتهم كانت محدودة جدا، وكانت تستمد وجودها إلى حد كبير من تأييد الكنيسة المعنوي، وكان على الأمير الإقطاعي لكي يضمن وجوده واستمراره أن يعيش دائما تحت السلاح، يقاتل غيره من الأمراء، أو يدافع عن نفسه ضدهم، كانت أوربا تعيش في حرب دائمة، وكان لابد من تصدير هذا الاستعداد الحربي إلى الخارج حتى يمكن أن يستعمل استعمالا يدعم نفوذ الكنيسة من جهة، ويحقق أطماع الأمراء جميعا من جهة أخرى، ويصرفهم عن إهدار استعدادهم للحرب في قتال بعضهم لبعض، ولعل كل ذلك واضح من نص الفقرات التي أوردناها من خطاب البابا أربانوس الثاني في صدر هذا الكلام.
- جزء 3
بقي علينا أن نعرف شيئا عن السبب المباشر لهذه الحروب.
وإذا كان ذلك سيضطرنا إلى أن نقف وقفة قصيرة، أو نخطو خطوة أخرى إلى الوراء، فإنه سيساعدنا على تصور القضية التي نحن بصددها تصورا صحيحا، وسيساعدنا أيضا على فهم طبيعة هذه الحروب التي لا نريد أن نسميها صليبية، إلا لأنها عرفت بذلك في التاريخ.
كان العالم الإسلامي في الشرق تتنازعه خلافتان، وصلتا معا إلى الدرك الأسفل من الهوان والضعف، هما الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في القاهرة، ولم يكن قد بقي لهما من الخلافة إلا اسمها وبعض مظاهرها، أما السلطة العملية فقد كانت بيد أمراء من جنسيات مختلفة، توزعوا العالم العربي والإسلامي فيما بينهم. وكانوا هم أيضا في الحقيقة أمراء إقطاع بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، يستمدون وجودهم الشرعي من اعتراف الخلافة بهم، مقابل حمايتهم لها أو عدم خروجهم عليها على الأقل، ويعتمدون في حماية وجودهم الفعلي على قواهم الحربية، وعلى قدرتهم على المخاتلة والدس والكيد والخيانة.
وفجأة، وفي غمرة هذا الانحلال والضعف والتفرقة، يتسرب إلى الإسلام، ومن بعيد جدا، دم آخر حار جديد لم تفسده المدنية، ولم تعبث به الأهواء والنزوات والأطماع الرخيصة، فتنتعش الدولة الإسلامية، وتفيق من غفوتها الطويلة، لتسترد أراضيها التي كانت اغتصبتها منها في فترات ضعف الدولة البيزنطية، أو الدولة الرومانية الشرقية التي كانت لا تزال موجودة حتى ذلك الحين، تدافع عن عاصمتها القسطنطينية ضد المسلمين، وتغتنم فترات ضعفهم، لتسترد منهم ما أمكنها استرداده مما انتزعوه منها من مستعمراتها في الشرق، وتقاوم من جهة أخرى محاولات الكنيسة الغربية للاستيلاء عليها وإخضاعها لنفوذها.
انحدر إلى الإسلام هذا الدم الحار الجديد من تركستان وهي منطقة في آسيا الوسطى، بين سيبيريا وبحر قزوين، وإيران وافغانستان والهند، وكان قد ظهر فيها زعيم يدعى سلجوق، كان هو رأس قومه المعروفين باسم الغز.
وقد عرف الغز الإسلام لأول مرة غزاة فاتحين، ولكنهم لم يلبثوا أن اعتنقوه في حماسة نادرة المثال، واستمروا مع ذلك في زحفهم يكتسحون الإمارات الصغيرة التي تعترض طريقهم من إسلامية وغيرها، حتى وصلوا إلى بغداد، واتصلوا بالخليفة العباسي، وعرضوا عليه حمايتهم مقابل اعترافه لهم بالسلطنة، وهكذا ظهرت في العالم الإسلامي دولة فتية، وقوية أيضا، هي الدولة السلجوقية، نسبة إلى زعيمها الأول سلجوق الغزي.
وبزعامة الأمراء السلاجقة وتحت قيادتهم استطاع المسلمون أن يستردوا من الدولة البيزنطية الرومانية، أراضيهم التي كانت قد اغتصبتها منهم، وأن يكتسحوا مستعمراتها في آسيا الصغرى، وأن يهددوا عاصمتها القسطنطينية، وهنا لا يجد الإمبراطورالبيزنطي بدا من أن يلجأ مكرها إلى الكنيسة الغربية يستنجد بها، فيبعث رسله في سنة 1094 إلى البابا اربانوس الثاني، ويجدها هذا فرصة مواتية للتدخل، ولإخضاع الكنيسة الشرقية إلى سلطانه، فيلقى في سنة 1095 خطبته الشهيرة المتقدمة، يستنهض بها باسم الدين، همم الأمم المسيحية الغربية لقطع دابر الكفار والبرابرة!!! وتجد الصرخة آذانا صاغية فتتوالى الحملات على الشرق الإسلامي العربي برا وبحرا من فرنسا واللورين وإيطاليا وصقلية وانجلترا وألمانيا وغيرها، فتسقط تباعا في أيدي الصليبيين سواحل سورية ولبنان وفلسطين وكثير من مدنها الداخلية، ويحتلون بيت المقدس، وتتكون في الشرق إمارات ومستعمرات لاتينية متعددة ويمضي على ابتداء الحملة الصليبية الأولى نحو من اثنين وثلاثين سنة، قبل أن يظهر في شمال سورية أمير سلجوقي وقائد حربي عظيم هو عماد الدين زنكي، الذي استطاع هو وابنه نور الدين محمود من بعده، أن يقفا في وجه الزحف الصليبي، وأن يستردا من الصليبيين بعض المدن السورية.
ويشتد ساعد نور الدين محمود فيطمع في ملك مصر، وعليها اذ ذاك الخليفة العاضد، آخر الخلفاء الفاطميين، وينجح نور الدين في أن يفرض على الخليفة الفاطمي وزيرا سلجوقيا، شابا في الثلاثين من عمره، طموحا في تواضع، يبدو عليه الذكاء، كما يغلب الحياء على مظهره، هذا الشاب المتواضع، أو ذلك الوزير الخطير الطموح، هو الذي سيعرفه التاريخ فيما بعد باسم الناصر لدين الله الأمير يوسف بن أيوب صلاح الدين.
ويموت العاضد آخر الخلفاء الفاطميين بعد سنتين ليخلو الجو لصلاح الدين وحده، وليصبح وحده صاحب الكلمة في مصر، لا يخاف على سلطانه إلا من ولي نعمته نور الدين محمود، وتبدو بوادر من نور الدين تحتم على صلاح الدين الأيوبي أن يفكر جديا في الاحتياط لنفسه ويهديه تفكيره إلى أن عليه أن يفتح بعض البلاد لتكون له معقلا من رئيسه إذا ما حاول المكر به، ويجب أن تكون هذه البلاد المفتوحة، أو هذا المعقل بعيدا جدا، حتى لا تصل إليه يدا نور الدين محمود.
وهكذا فتح صلاح الدين اليمن في جنوب بلاد العرب، وهكذا أيضا أرسل جيشا تحت قيادة ابن أخيه تقي الدين ليفتح له بعض بلاد المغرب.
وهنا يبدأ ما سبق أن ذكرناه من تعليل امتناع يعقوب المنصور عن نجدة صلاح الدين ببعض الخلافات على الحدود.
فنحن نعلم أن الإمبراطورية المغربية على عهد يعقوب المنصور كانت تمتد من البحر المحيط غربا إلى برقة شرقا، أي أن حدودها كانت متاخمة لحدود مصر.
وبالفعل فقد بعث صلاح الدين للمغرب العربي ابن أخيه تقي الدين غازيا، لكن يبدو أن تقي الدين لم يوغل كثيرا في المغرب، وإنما ترك إنجاز هذه المهمة لأحد مواليه وقادته العسكريين شرف الدين قراقوش، الذي وصل في غزوه إلى طرابلس الغرب، ويعرف هذا القائد في التاريخ باسم قراقوش التقوي نسبة إلى تقي الدين بن أخ صلاح الدين الأيوبي، وهو غير بهاء الدين قراقوش وزير صلاح الدين، الذي تعرفه اليوم المسارح المصرية كشخصية هزلية طريفة في سخفها وفي دكتاتوريتها المضحكة.
مهما يكن فقد بدأ الصراع بالفعل بين الدولة الأيوبية والدولة الموحدية، وكلف هذا الصراع الدولة الموحدية غاليا، لأنها لم تكن متفرغة له، بل كانت مشغولة هي أيضا بحروب أخرى صليبية في شمال الأندلس.
وعندما كان يعقوب المنصور على وشك أن يغلب الفونس الثامن ملك قشتالة على طليطلة عاصمة ملكه، ويعيدها إلى الإسلام حملت إليه الأنباء خبر قراقوش وحلفائه من العرب وبني غانية في شرق المغرب.
أما قراقوش فقد عرفنا أمره، وأما حلفاؤه العرب فهم بنو هلال، الذين كان الفاطميون قد رحلوهم إلى الأندلس لأسباب سياسية، وأما بنو غانية فقد كانوا عمالا لدولة المرابطين على جزائر البليار، ميورقة، ومنورقة، ويابسة. وظلوا على ولائهم للمرابطين حتى بعد انقراض دولتهم في المغرب، وقيام دولة الموحدين على أنقاضها، وقد اشتبكوا في معارك دامية مع الموحدين في جزائر البليار نفسها. فلما غلبوا على أمرهم فروا إلى الناحية الشرقية من المغرب العربي، حيث ظلوا يناوئون الموحدين، وحيث تحالفوا من بعد، هم والعرب الهلاليون، وقراقوش التقوي، على حرب يعقوب المنصور والإفساد عليه.
يقول ابن خلدون عند الحديث عن قراقوش التقوي: (وكان من خبره أن صلاح الدين صاحب مصر، بعث تقي الدين ابن أخيه شاه إلى المغرب لافتتاح ما أمكنه من المدن تكون له معقلا يتحصن فيه من مطالبة نور الدين بن زنكي صاحب الشام… إلى أن يقول: فأما قراقوش فلحق ششرية، وخطب فيها لصلاح الدين ولأخيه تقي الدين، وكتب لهما بفتح زويلة (من أعمال ليبيا) ولم يزل يفتح البلاد إلى أن وصل إلى طرابلس… ولما وصل ابن غانية إلى طرابلس، ولقي قراقوش، اتفقا على المظاهرة على الموحدين).
وقد ورد في هامش طبعة مصر الأخيرة لكتاب المعجب، في صفحة 273: (كان العرب يؤازرون بني غانية في هذه المعارك بينهم وبين الموحدين، كما يوازرهم الغز من المماليك المصريين.)
وورد فيه أيضا في صفحة 283: (كان أبو يوسف –يعقوب المنصور- فيما يروي أهل التاريخ، موشكا أن يغلب الادفونش –الفونس الثامن- ملك قشتالة على طليطلة عاصمة ملكه، ويعيدها إلى الإسلام وإنما حمله على قبول الهدنة، ما بلغه من حركة ابن غانية في إفريقية مع قراقوش الأيوبي.)
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، لم يقف تأثير حركة قراقوش وحلفائه من العرب وبني غانية على حمل يعقوب المنصور على التضحية بانتصاره على الفونس الثامن، وإنما تعداه إلى أكثر من ذلك، فقد لقي يعقوب عنتا كبيرا في حرب قراقوش وحلفائه، وتحمل من أجل القضاء على حركتهم تضحيات كثيرة، فقد هزموه أولا وشردوا جيشه، لكنه أعاد عليهم الكرة ثانية فتمكن من أن يهزمهم ويقضي على حركتهم.
وهنا لم يجد قراقوش ومن معه من الغز، إلا أن يستسلموا ليعقوب المنصور، وأن يستأمنوه، ولما رأى يعقوب ما هم عليه من الشجاعة والنجدة والمقدرة على القتال، فضل أن يعفو عنهم، ويحتفظ بهم إلى جانبه، بل ويستخدمهم في حروبه.
وليس من الصعب علينا أن نتصور أن هؤلاء الموالي بعد أن غلبوا على أمرهم، وبعد أن عوملوا هذه المعاملة الكريمة، سيحاولون بكل الوسائل أن يتنصلوا من جرمهم، وأن يلقوا التبعة كلها على رؤسائهم الذين بعثوهم إلى المغرب، وكلفوهم بإنجاز المهمة التي قدموا غازين من أجلها، وهؤلاء الرؤساء طبعا هم صلاح الدين الأيوبي، وابن أخيه تقي الدين.
لم ينجح إذن مسعى صلاح الدين في المغرب، ولكن المنصور لم يستطع أن ينساها له، بل إن التاريخ ليحدثنا أن المنصور كان يفكر بالفعل، في غزو مصر، وذلك حيث يقول عبد الواحد المراكشي: فبلغني عن غير واحد منهم، أنه –يعقوب المنصور- صرح بالرحلة إلى المشرق، وجعل يذكر البلاد المصرية وما فيها من المناكر والبدع، ويقول: نحن إن شاء الله مطهروها.)
إذن فقد كان التوتر بالغا مداه بين الدولة الأيوبية في مصر وسورية، وبين دولة الموحدين في المغرب، ولعل هذا من أهم الأسباب التي حالت بين المنصور وبين نجدة صلاح الدين حينما استنجد به من بعد، بل إن لدينا من النصوص التاريخية ما يثبت أن صلاح الدين الأيوبي وحاشيته كانوا يتوقعون منذ البداية، أو يخافون على الأقل، أن يخفق في مهمته الرسول الذي بعثوه للاستنجاد بيعقوب المنصور، نظرا لما فعله في أطراف المغرب من قبل مولاهم وقائدهم العسكري قراقوش التقوي، ولعل النص التالي كاف في الدلالة على ذلك، فقد احتفظ لنا شهاب الدين المقدسي في كتابه (الروضتين في أخبار الدولتين) بنصوص تاريخية مهمة في الموضوع، من بينها رسالة بعثها القاضي الفاضل رئيس ديوان صلاح الدين الأيوبي إلى يعقوب المنصور، وذلك عندما طال مقام ابن منقذ بالمغرب، وأصبحت الدولة الأيوبية تخشى أن يكون ذلك بسبب بعض الصعوبات التي لقيها في مهمته، وكان من بين الصعوبات التي افترضها القاضي الفاضل ما سبق من غزو قراقوش التقوي لأطراف المغرب.
بعث القاضي الفاضل هذه الرسالة إلى عبد الرحمن ابن منقذ يلقنه بعض الأجوبة التي قد يكون في حاجة إليها، للرد على اعتراضات يعقوب المنصور أو اعتذاراته، أما النص المقصود بالذات فهو قول القاضي الفاضل في هذه الرسالة: (وان سئل «أي عبد الرحمن بن منقذ» عن المملوكين يوزيا وقراقوش وذكر ما فعلا في أطراف المغرب، بمن معهما من نفايات الرجال، الذين نفتهم مقامات القتال، فيعلمهم أن المملوكين ومن معهما ليسوا من وجوه المماليك والأمراء، ولا من المعدودين في الطواشية والأولياء، وإنما كسدت سوقهما، وتبعتهما ألفاف من أمثالهما. والعادة جارية أن العساكر إذا طالت ذيولها، وكثرت جموعها، خرج منها وانضاف إليها، فلا يظهر مزيدها ولا نقصها. ولا كان هذان المملوكان ممن إذا غاب أحضر، ولا ممن يستطيع نكاية، ولا يأتي بما يوجب شكوى من جناية، ومعاذ الله أن نأمر مفسدا بأن يفسد في الأرض، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت.)
لعل هذا النص صريح فيما ذهبنا إليه من أن الدولة الأيوبية كانت تتوقع أو تخشى منذ البداية ألا يستجيب يعقوب المنصور لاستنجادها به، نظرا للحروب التي كانت بين الدولتين على الحدود الشرقية للامبراطورية المغربية، تلك الحروب التي أرادت الدولة الأيوبية أن تلقي وزرها على قراقوش التقوي، لا باعتباره قائدا عسكريا لها، ولكن باعتباره خارجا على دولته، متصرفا بغير أمرها، ويبدو من أسلوب النص أن ما ورد فيه لا يمكن أن يكون شرحا للحقيقة بقدر ما هو تنصل واعتذار.
ومهما يكن، فإن كل هذا لا يكفي في نظرنا لتبرير موقف المنصور، فقد كانت حاجة العالم العربي الإسلامي إلى التكتل، أما هذه الحرب العدوانية التي شنها عليه الغرب بأجمعه باسم الدين، فأكبر من أن تقف إلى جانبها هذه الاعتبارات الخاصة، أو هذه الخلافات، التي لا يخلو منها عصر من العصور بين كل دولتين أو امبراطوريتين مشتركتي الحدود.
إننا لا نزال عند رأينا الأول في إدانة يعقوب المنصور، ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نحاول شرح موقفه ما أمكن، لا لتبريره، ولكن لمجرد الشرح، وسنتحدث في الفصل المقبل إن شاء الله عن حقيقة التعليل التاريخي التقليدي لموقف المنصور، ذلك التعليل الذي يقول: إن يعقوب المنصور لم يستجب لنداء صلاح الدين لأنه لم يخاطبه بأمير المؤمنين.
تعليقات الزوار 1