صدر حديثًا عن سلسلة ترجمان في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب “فكرة الغرب: الثقافة والسياسة والتاريخ”، وهو ترجمة أحمد مغربي لكتاب The Idea of the West: Culture, Politics, and History للأكاديمي آلاستَير بونيت. يقع الكتاب (320 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) في مقدمة وسبعة فصول وخاتمة، محاولًا الإجابة عن أسئلة عدة، من قبيل: “ما الغرب؟”، “ما أصول هذا المفهوم؟”، “ما تاريخه؟”، “ما تجلياته المختلفة؟”، “ما علاقته بخصومه وصراعاته؟”.
الأطروحة الأساسية في الكتاب هي أن الغرب من صنع غير الغربيين إلى حدّ بعيد؛ إذ يبدو أن أفكار غير الغربيّين عن الغرب سبقت نظيرتها عند الغربيّين في حالات عدّة؛ وأنَّ الشرق لم يقتصر على استيراد الغرب وتبنّيه من خلال نوع من التهجين؛ وأنَّ الثقافات غير الغربية كثيرًا ما بَنَت على نحو فاعل ومُبتَكَر صورًا وتمثيلات للغرب تناسب حاجاتها السياسية في كلّ مرحلة؛ وأنَّ هذه التمثيلات غالبًا ما كانت مختلفة أشدّ الاختلاف عن الغرب الفعلي. إلى جانب هذا، يصوّب بونيت على “ذلك النوع من العدوانيّة الذي أبداه هانسون ومارغاليت وبوروما”، وهم كتّاب معاصرون يدين ما يروّجون له باستمرار من أساطير عن مواجهة محتومة بين الشرق والغرب وعن انتصار الغرب الأكيد.
فكرة الأبيض
في الفصل الأول، من الأبيض إلى “الغربي”: “تدهورعِرقي” وصعود فكرة “الغرب” في بريطانيا 1930-1890، يرى بونيت أن فكرة الغرب نشأت من فكرة أسبق هي “فكرة البياض” التي توقف استخدامها في ثلاثينيات القرن العشرين، حين حلّت “القيم الغربية” محلّ “خطاب البياض” الذي راحت محدوديته الشديدة تتكشف خلال ما يدعوه بونيت “أزمة البياض”، وهي فترة شهدت كثرة الأعمال التي تحتفي بفضائل البياض وتحذّر من المخاطر التي تواجهها. لكن الافتراضات العرقية المبتذلة في هذه الأدبيات لم تثبتها الوقائع على الأرض، ما أحدث توترًا شديدًا ثمّ تدهورًا في خطاب التفوق الأبيض، علاوة على أن جمع الأعراق المتباينة تحت مقولة “البياض” ما كان لينفع في الدفاع عن قضية “وحدة البيض”.
عملت متناقضات أخرى عديدة على بذر الاضطراب في فكرة “وحدة البيض”؛ إذ كشفت الحرب العالمية الأولى والانقسامات الطبقية الشديدة التي قتل فيها الأخوة بعضهم بعضًا قصور البياض كمقولة من مقولات التضامن الاجتماعي. وتبيّن أن الهوية البيضاء ليس لها تاريخها المستقل. كما ثبت أن فكرة الغرب، في المقابل، مرنة وقابلة للاستخدام أكثر كثيرًا، فضلًا عن كونها أبعد مدى ولا تبدي من المركزية العرقية إلا ما هو حاذق ورهيف.
يلاحظ بونيت أن امتياز البياض لم ينته بل تغيّرت طبيعته فحسب، وأضحى أشدّ خفاءً وأقلّ اعترافًا به. وإذا ما كانت فكرة الغرب قد ساعدت في زوال بعض خصائص المذهب القائل بالتفوّق الأبيض، فإنها كانت تنطوي هي ذاتها على مشكلاتها الخاصة وتوتراتها، إذ تبقى فكرة مأزومة تواجه خطر الانحلال.
غرب في الشرق
يواصل بونيت رصد فكرة الغرب، إنّما لدى مفكرين بارزين واتجاهات فكرية بارزة من خارج الغرب إلى هذا الحدّ أو ذاك، فيعقد الفصل الثاني شيوعيّون مثلنا: فكرة “الغرب” في الاتحاد السوفياتي، لرصد الكيفية التي تعامل بها البلاشفة مع فكرة “الغرب”، بدءًا من ربطه بالحداثة الاشتراكية والثورة الاشتراكية التي يُنتظر أن تأتي منه وصولًا إلى اعتباره عدو الدولة السوفياتية الوليدة. ويخصص الفصل الثالث، وداعًا آسيا، غرب المُغَرْبِنين: فوكوزاوا وغوكالب، لرصد العلاقة بين آسيا والغرب، مستكشفًا مواقف دعاة التغريب الشرقيين في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ويتناول أعمال اثنين من المفكرين الأساسيَين، هما الياباني فوكوزاوا يوكيتشي والتركي ضياء غوكالب، وجدا أن القطع مع آسيا والوصل مع الغرب هما ما يمكن أن يعطي بلديهما موقعًا مميّزًا ومتفوّقًا، على ألّا يُفهَم ذلك بمعنى الالتحاق بالغرب بل بمعنى امتلاك أدواته الفكريّة والعسكريّة والاقتصادية التي لا بدّ أن تساعد على الاستقلال وامتلاك مستقبل قومي مستقل. أمّا في الفصل الرابع، غرببلا روح/آسيا الروحانيّة:غرب طاغور، فيقدم بونيت محاولةً تتوخّى إظهار أصالة الروحانية الآسيوية وكونها ليست مجرد ارتكاس عدائي تجاه المادية الغربية والهوية الغربية عمومًا.
طوباوية وواقع
في الفصل الخامس، من فاقد الروح إلى خامل: فكرة “الغرب” من الآسيويّة الجامعة إلى القيم الآسيويّة، ينتقل الكاتب من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى أواخره، ليرصد ما اعترى الصور النمطية عن الغرب من اختلاف شديد في الثنائية الضدية التي تضع الغرب مقابل آسيا. هكذا لم يعد الغرب لدى المدافعين عن القيم الآسيوية محلًّا للعقلانية والصناعية بل للكسل والفوضى الاجتماعية، بخلاف آسيا الكفوءة التي تحسّ بواجبها وتنكر ذاتها. بيد أن هذا الرفض للغرب يبقى، على ما يرى الكاتب، “هشًّا أمام قوة النموذج النيوليبرالي المعولَم الذي يهيمن عليه الغرب”. أمّا في الفصل السادس، طوباويّة غربيّة: “الغرب” النيوليبرالي، فينكبّ الكاتب على ما لحق بفكرة الغرب من تضييق مع أفول الديمقراطية الاجتماعية وبروز النيوليبرالية بوصفها برنامج عمل لباقي العالم، مع أنّها في رأي بونيت تفكير طوباوي وأيديولوجيا. لنصل إلى الفصل السابع والأخير، الواقع “الغربي” المرّ: راديكاليّة إسلاميّة ومعاداة “الغرب”، حيث ينصرف الاهتمام إلى ما تطور لدى الإسلام السياسي المتطرف من يوتوبيا هي مقلوب الغرب وصورته المعكوسة. وهنا، يناقش الكاتب أعمال اثنين من المفكرين مختلفين أشدّ الاختلاف، هما الناقد الثقافي اليساري جلال آل أحمد، والإسلاميّة مريم جميلة.
Warning: Undefined variable $postData in /home/ifada/public_html/wp-content/themes/NewsPaperOne-Light/template-parts/content/content-single.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on null in /home/ifada/public_html/wp-content/themes/NewsPaperOne-Light/template-parts/content/content-single.php on line 55
Warning: Attempt to read property "ID" on null in /home/ifada/public_html/wp-content/themes/NewsPaperOne-Light/template-parts/content/content-single.php on line 55
أضف تعليقك