سلوى ياسين: أساور في معصم الموت

صمتي هو الهدية التي استلمتها من يد الألم شخصيا. ومن هذا الصمت الذي لم يتحول بعد إلى حكمة. تعلمت  بعد كل هذا العمر التفريق بين مشاعري وأفكاري، لطالما عنَت لي شيئا واحدا. عذبني ذلك كثيرا. مشاعري وأفكاري، ودون أمل في التغيير. عشت نصف حياتي أخلط بينها كطفلة لا تستطيع التفريق بين فردتي حذائها. رجل يمنى داخل فردة يسرى. وداخل قلبي صورة قديمة عمرها عشرات السنوات.  رُضَّع أقدامهم الصغيرة يابسة ومرفوعة إلى أعلى فيما يشبه صلاة أخيرة. راحة الأقدام زرقاء تقريبا. أُهرب هذه الصورة من قلبي إلى عقلي. الأفكار والمشاعر مرة أخرى وفي ما يشبه اللعب تتبادل الأماكن مرددة: “سهلٌ أن ترى صعب أن تمحو ما رأيته”. يعادل ذلك اقتلاع كف. يظل الشعور بالمكان الفارغ يعذبنا قبل أن ندرك أننا أصبنا بمتلازمة أثر العضو المبتور.  صورة للموت لاعبا أساسيا في كل الفرق موزعا نفسه إلى أجزاء صغيرة وغضة. هكذا ضل الموت يلعب مع أطفال المستشفى لعبته المفضلة، يضع يديه على أعينهم ولا يردد “خمن من أنا؟”. 

 أستعيد الآن نظرتي صوب الممر الطويل البارد. داخل جناح الأطفال الذي تفوح منه رائحة العجز المقيتة. تمنيت  آنذاك  لو كان الجميع مرضى. الأطباء والممرضون والزوار والمرأة السمينة التي توزع الوجبات ثلاث مرات في اليوم وتتذمر حين يمد طفل صحنه إليها مرددا: “لا تضعي لي لفتا مع الحساء أنا لا أحب اللفت”، تجيبه بالصوت الذي  ينط من بطنها كسمكة “جيد، لا تحب اللفت، وأين أضع أنا كل هذا اللفت؟ هل أعلقه في قروني”. لديها قرون بالتأكيد حتى ولو كانت غير مرئية. أستطيع أن أرى على رأسها القرون وأن أرى التاج أيضا. على رؤوس الجميع أستطيع رؤية التيجان التي لا ينتبه إليها الأصحاء. أراقب ما الذي يفعلونه بتاج الصحة: لا شيء.