
زينب والغول
أخذتني عيني قبل أذان المغرب، فرأيت في النوم كأني أجتاز امتحانا شفويا أمام الأستاذ أمجد الطرابلسي. وكأنه فتح كتابا قديما، وطلب مني أن أقرأ الشعر الموجود على الصفحة اليمنى. تناولت الكتاب وبدأت أقرأ:
( وقال عروة بن الورد:
ولله صعلوكٌ صحيفةُ وجــهه ××× كضوء شهاب القابس المـتنوِّرِ
مُطِلّاً على أعدائه يزجُرونــه ××× بساحتهم زجـرَ المنيحِ المُشَهَّرِ
وإنْ بعُدوا لا يأمنون اقـترابَهُ ××× تَشَوُّفَ أهل الغــائب المُـــتَنَظَّرِ
فـــذلك إنْ يلق المنيةَ يلقَــــها ××× حميدا، وإنْ يستغنِ يوما فأَجْدِرِ )
ورفعتُ عيني إلى وجه الأستاذ فوجدته يبتسم. كنت أعرف أنه يطلب منك في البداية أن تقرأ في كتاب قديم، فإذا لم تُجِدِ القراءة صرفك وأعطاك النقطة الدنيا، وإذا أجدتَ القراءة سألك عما قرأت، وأطال الحديث معك، لذلك فرحتُ حين رأيت ابتسامته وتوقعت أن يسألني. وكان سؤاله:
ما معنى قول الشاعر: ( زَجْرَ المنيحِ المُشَهَّرِ )؟ فأخذتُ أُفصِّل الحديث عن الصعاليك في العصر الجاهلي، وعن أميرهم عروة الذي كان يُقَسِّمُ جسمَه في جسوم الفقراء، وعن الثورة التي أحدثوها في المجتمع الجاهلي….إلخ، ولكن الأستاذ قاطعني قائلا: وما معنى قوله ( زجر المنيح المشهر )؟ فانخرطت في الحديث عن الميسر في الجاهلية، وكيف كانوا ينحرون ناقة، ويقسمونها قطعا، ثم يلعبون على الفوز بهذه القطع ليوزعوها على فقراء الحي، وعن كيفية اللعبة وقِداح الميسر أي الأزلام أو السهام التي يلعبون بها، كما شرح ذلك ابنُ قتيبة في كتابه ( الميسر والقِداح )… ولكن الأستاذ قاطعني قائلا بابتسامته نفسها، لم تَتَسَنَّهْ ولم يتغير طعمُ معناها: وما معنى قول الشاعر: ( زجر المنيح المشهر )؟ فتحدثت عن أسماء القِداح التي يلعبون بها، ومنها ( المنيح )، وهو قِدْحٌ ( مسخوط ) لا نصيب له في اللعبة، ولكنه يصر على الخروج قبل القداح ذوات الأنصبة، فيزجره اللاعبون كما يزجرون الصعلوك الذي لا مال له، ويصر، مع ذلك، على نهب أموال الأغنياء وتوزيعها على الفقراء…. فقال لي الأستاذ: ليس هذا هو معنى ( المنيح ) في هذا البيت، فاذهب إلى خزانة الكلية وابحث عن معناه، ثم عد إليّ حين تعرفه.
حاولت بعد خروجي أن أستعين بالشيخ غوغل، ولكني خشيت أن أنقل منه خطأً في الشعر أو فسادا في الرأي فيسوء حالي مع الأستاذ أكثر مما ساء… فاتكلتُ على الله وقصدت الخزانة. وفي الطريق إليها تذكرتُ أن ابن قتيبة يقول في كتاب ( الميسر والقِداح ) إنَّ أكثرَ الشعراء وصفا لقداح الميسر تميمُ بنُ أُبَيّ بنِ مُقبل، حتى إنهم ليضربون به المثل فيقولون: ( قِدْحُ ابن مقبل ). وهكذا، حين دخلت الخزانة، طلبت ديوان ابن مقبل، فتأسفت السيدة المكلفة وقالت لي: عندنا نسخة واحدة منه للأسف، وقد أخرجتُها قبل قليل لتلك السيدة هناك…. نظرتُ إلى حيث أشارت، فرأيت الشيطانة زينب تبتسم لي. ذهبتُ إليها وجلست بجوارها، فرفَعَت في وجهي الكتاب ( ديوان تميم بن أبي بن مقبل. تحقيق الدكتور عزة حسن )، وهي تقول: ( الشحيمة ). قلت لها:
ـــ أية شحيمة؟
ـــ التي جررتُك بها. كم تعطيني مقابل الكتاب؟
ـــ لا حاجة لي بالكتاب. خذيه إذا شئت. أنا أريد أن أعر ف فقط معنى ( المنيح ) في قول عروة:
مطلا على أعدائه يزجرونه ××× بساحتهم زجر المنيح المشهر
ـــ اطلب أي شيئ آخر. أنا لا أحب الصعاليك
ـــ لماذا؟
ـــ لأن تأبط شرا قتل عمتي
انفجرتُ ضاحكا حتى التفت إليّ الباحثون في الخزانة استنكارا، وقلت لها:
ـــ قتل عمتك؟ إن بيننا وبين تأبط أكثر من خمسة عشر قرنا
ـــ هي خمسة أشهر بحسابنا. يوم الجن بعشر سنوات إنسية
ـــ وكيف قتل تأبط السيدة عمتك؟
ـــ لقيها بمكان صحراوي بسفوح جبال هذيل، يقال له ( رَحَى بِطَان )، وهي بصفة الغول، وقد حكى ما وقع له معها، أو بعبارة أدق ما وقع لها معه، في مقطوعته التي يقول فيها:
ألا مَنْ مُبلغٌ فِـــتيانَ ( فَهْمٍ ) ××× بما لاقيتُ عند ( رَحَى بِطَانِ )
بأني قد لقيتُ الغـــولَ تهوي ××× بسهبٍ كالصحيفة صَحْصَحَانِ
فقلتُ لها: كلانا نِـــضْوُ أَيْـنٍ ××× أخو سفر، فخَلِّي لي مكــــاني
فَشَدَّتْ شدةً نــحوي فـأهوَى ××× لها كَـــفِّي بمــصقولٍ يمــــاني
فأضربها بلا دَهَشٍ، فَخَرَّتْ ××× صريـــعاً لليـــدين وللــــجِرَانِ
ـــ ما معنى الجِران؟
ـــ هو باطن عنق البعير الذي يضعه على الأرض حين يستريح. ألا تعرف شاعراً اسمه ( جِرانُ العَوْد )؟ كان قد صنع من جران عَوْده ( أي جَمَله ) سوطا، وهدد به زوجتيه وهو يقول:
خذا حَذَراً ياضَرَّتَيَّ فإنَّني ××× رأيتُ جِرانَ العَوْدِ قد كاد يصلُحُ
فسُمِّيَ من يومه ( جران العود ).
ـــ ولماذا استعمل تأبط كلمة الجران لوصف عنق عمتك؟
ـــ لأن عمتي كانت طويلة العنق كالناقة، ومع أن اسمها ( الزبراء )، فقد كنا نناديها دائما ب ( بعيدة مهوى القُرط )
ـــ غريب. كنت أظن أن عمر بن أبي ربيعة هو الذي خلق هذه الكناية بعد تأبط وعمتك بزمان. حين قال:
بعيدة مهوى القُرطِ، إمَّا لنوفلٍ ××× أبوها، وإمَّا عبدُ شَمْسٍ وهاشِمُ
ـــ نمتَ وأدلج الناس. هذه الكناية قديمة جدا. ألم تسمع قول الجاهلي لزوجته:
أكلتُ دماً إنْ لم أَرُعْكِ بضَرَّةٍ ××× بعيدةِ مَهوى القُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
هل تعرف معنى ( النشر ) هنا؟
ـــ أظنه الرائحة
ـــ ومعنى ( أكلتُ دما )؟
ـــ يدعو على نفسه أن يأكل الدم الذي هو حرام شرعا إن لم يأت لزوجته بضرة
ـــ حرام شرعا؟ إنه جاهلي… أكل الدم في الجاهلية كان يعني أكل الدية، وكانوا يعتبرون ذلك سُبَّة، فأنْ يقبل الرجل الدية في دم قريبه بدل أن يثأر له، كأنه أكل دمه.
ـــ والمنيح؟ أنقذيني أرجوك. أمجد ينتظرني.
ــــ اسمع. المنيح الذي تبحث عنه هو قِدْحٌ ميمون مبارك له عدد من الأنصبة يفوز بها دائما، ولأنه كذلك فإن اللاعبين يستعيرونه من صاحبه فيمنحهم إياه. وفي هذا المنيح يقول ابن مقبل:
إذا امتنحته من مَعَدٍّ عصابةٌ ××× غدا رَبُّهُ قبل المفيضن يقدَحُ
أي أن اللاعب به يقدح النار ليشوي اللحم قبل اللعب ليقينه بالفوز.
تركتُ زينب في الخزانة، وهرعتُ إلى قاعة الامتحان، فوجدت في مكان الأستاذ أمجد، عجوزا حيزبونا، أخذت تقلّب في وجهي عينيها الحمراوين ( كأنهما جمرتان من حطب البلوط )، ثم قالت لي:
ـــ أنا أنوب عن الأستاذ أمجد. اجلس
ـــ ما اسمك ياأستاذة؟
ـــ اسمي الزبراء. أنا عمة صاحبتك زينب
فانتفضت ووليت هاربا من القاعة، فإذا زينب تنتظرني بالباب.
وقفتُ حائراً أقدّم رجلا وأؤخّرُ أخرى، وتذكرتُ تلك الرسالة التي ارسلها أحد خلفاء بني أمية إلى عدو له وقال فيها:
( أما بعد فإني رأيتك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فإذا وصلك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام )
لم أعتمد على أيهما.. بل فررت هاربا إلى اليقظة، فشممتُ، وأنا أفيق مرعوبا، رائحة القهوة والحريرة تأتي من المطبخ، فاطمأن روعي، وعرفتُ أن المغرب لم يؤذَّن بعد.