يؤكد تقرير حقوقي إسرائيلي جديد أن إسرائيل تنتهك المواثيق الدولية وتكرر انتهاكاتها في الأرض المحتلة عام 1948 وفي الضفة الغربية المحتلة، باستغلال علم الآثار في خدمة أهداف سياسية لتعزيز مزاعم الرواية الصهيونية واحتلال التاريخ بعد الجغرافيا. وهذا التقرير بعنوان «الاستئثار في الماضي ـ الاستغلال الإسرائيلي لمواقع ومُكتشَفات أثرية في الضفة الغربية» وصادر عن منظمتين حقوقيتين إسرائيليتين ( منظمة «يش دين» / يوجد قانون، ومنظمة «عيمق شافيه» – منظّمة ناشطة من أجل حقوق الثقافة والتراث وبهدف الحفاظ على المواقع الأثرية كممتلكات عامة تابعة لكل المجتمعات والشعوب)؛ تولى ترجمته وتحريره المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار). ويقدم الفصل الأول من التقرير عرضا للخلفية القانونية الخاصة بمجال الأثريات في منطقة خاضعة للاحتلال، ويعرض الإطار القانوني الساري على الضفة الغربية، مع التركيز بشكل خاص على نصوص وأحكام القانون الدولي بشأن المسموح والمحظور في عمل قوة الاحتلال في كل ما يتعلق بالأثريات، مواقعها وموجوداتها.
موجز الحكاية
ويعالج الفصل الخامس «حالة اختبارية» تتمثل في الموقع التاريخي ـ الأثري في خربة سيلون (تل شيلو) الواقع في قرية قريوت الفلسطينية، وهو موقع حددته سلطات الاحتلال الإسرائيلي وقيادات المستوطنين الضفة الغربية بكونه «الموقع السياحي الرائد في المشروع الاستيطاني». وتجسد هذه الحالة الاختبارية «عصارة التقرير كله: ابتداء من وضع اليد على أراضي الموقع والاستيلاء عليها، ثم طرد أصحابها الفلسطينيين الذين كانوا يسكنون هناك ويعتاشون على فلاحة أراضيهم، ثم نقل المسؤولية عن إدارته إلى هيئات تابعة للمستوطنين تقرر المضامين المعروضة فيه بما يتلاءم مع منظورها الاستيطاني ويخدم رؤيتها، وانتهاء بتطويره كموقع سياحي وتجاري متميز، من خلال المس غير القابل للإصلاح بالموقع الأثري وبالموجودات الأثرية التي يحتوي عليها «.
وعلى هذه الخلفية، لجأت المنظمتان (يش دين وعيمق شافيه) إلى إجراءات قضائية للمطالبة بتزويدهما بالمعلومات الضرورية حول السياسة الإسرائيلية في مجال الأثريات في الضفة الغربية. كما تنوه معدة التقرير أيضا، إلى أن العمل على إعداده استمر أربع سنوات أجرى مندوبو المنظمتين خلالها زيارات المواقع الأثرية في الضفة الغربية والتقوا أصحاب الأراضي الفلسطينيين الذين عُثر في أراضيهم على مكتشفات أثرية وبقايا تاريخية، وهو ما مكّن من توثيق الإجراءات الإسرائيلية المختلفة المستخدمة لنهب التراث الفلسطيني وسلب الفلسطينيين حقوقهم وتراثهم.
الأثريّات وسيلة لتكريس الرواية الصهيونية
يؤكد التقرير أن الضفة الغربية غنية بالمواقع والآثار الأثرية «التي تذكّر بالتاريخ الغني والمتنوع الذي شهدته ورغم أن الأركيولوجيا تكشف أحداثا وقصصا من الماضي، إلا أن ثمة للرواية التاريخية أهمية حاسمة هنا. وفور احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، في يونيو/ حزيران 1967، أبدت اهتماما ملحوظا في كل ما يتعلق بالأثريات والمواقع الأثرية هناك وهي تواصل، منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، استغلال الأركيولوجيا كأداة أساسية لتعميق السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية.
وفي هذا السياق، يبين التقرير المساعي الإسرائيلية المتواصلة لإثبات رابطة تاريخية، دينية وثقافية يهودية بالضفة الغربية، في إطار محاولاتها لتبرير وشرعنة سياسة النهب، والاحتلال والسيطرة الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية. ويكشف تحليل سياسة إسرائيل في مجال الأثريات في الضفة الغربية أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي قد انتزعت لنفسها صلاحيات واسعة جدا في هذا المجال، وسط انتهاكات صارخة للقوانين والأعراف الدولية المُلزمة.
الرواية التاريخية
ويؤكد التقرير الحقوقي أن السيطرة الإسرائيلية على المواقع والموجودات الأثرية في الضفة الغربية تشكل أداة مركزية لإقصاء الفلسطينيين، فعليا، عنها بطرق ووسائل مختلفة، بما يؤدي إلى إضعاف الرابطة بين الفلسطينيين وتراثهم. وإضافة إلى هذا، تتيح هذه السيطرة لإسرائيل صياغة وتصميم الرواية التاريخية التي ترويها هذه الأثريات، على نحو يؤكد ويُبرز ارتباط» شعب إسرائيل « بها ويشدد التقرير خطورة محاولات احتلال الوعي.
ويعيد التقرير التذكير بأن الحركة الصهيونية «أحسنت، منذ بداياتها الأولى، استغلال الأركيولوجيا لتكريس مزاعمها بشأن ارتباط «شعب إسرائيل بـ أرض إسرائيل» . ويضيف «وانسجمت الرواية التوراتية انسجاما تاما مع الرواية الصهيونية بشأن عودة الشعب اليهودي إلى أرض إسرائيل. وكان من شأن استغلال الأثريات تكريس الرواية الصهيونية بشأن حق شعب إسرائيل التاريخي في أرض إسرائيل».
لكن أهمية الأركيولوجيا تعاظمت أكثر فأكثر، في واقع النزاع القومي، ثم ازدادت أضعافا في أعقاب احتلال الضفة الغربية في 1967 على خلفية «التوجه الإسرائيلي القائل بأن الأركيولوجيا قادرة على توفير البرهان على الرابطة التاريخية بين شعب إسرائيل والمواقع الأثرية الموجودة في المناطق التي احتلتها إسرائيل».وهذا ما دفع إسرائيل إلى إجراء «مسح طوارئ أركيولوجي» في عام 1968، أعقبته على الفور أعمال حفريات واسعة جرت في منطقة سوسيا في جنوب جبال الخليل في عام 1971. ثم بلغ هذا التوجه ذروته في العقد الثاني على الاحتلال، بين الأعوام 1977 – 1987، خلال صعود اليمين للحكم وفترة الازدهار التي شهدها المشروع الاستيطاني، وما رافقه من حملات دعائية إسرائيلية رسمية استطاعت تجنيد ميزانيات كبيرة للأبحاث والحفريات الأركيولوجية في الضفة الغربية. ويخلص التقرير الإسرائيلي للقول «بهذا كله، تلتف إسرائيل على مسؤولياتها كـ»مؤتمن» على الثورات الأثرية الخاضعة لسيطرتها المؤقتة بحكم كونها قوة احتلالية، بما يشكل اعتداء فظا على حقوق الفلسطينيين في الضفة الغربية ومصالحهم، الثقافية والسياسية، وبما يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي».
قوة الأساطير
لكن هذا السطو المسلح على التاريخ فور احتلال الجغرافيا بدأ قبل 1967 وبدأ فورا غداة نكبة 1948، واليوم يختلف باحثون ومراقبون في إسرائيل حول ماهية علم الآثار وعلاقتها بالسياسة وبالصراع. لكن بعض الباحثين والمراقبين الإسرائيليين لا يترددون في التأكيد على استغلال إسرائيل للآثار لتحقيق غايات سياسية.
داعية السلام الصحافي وعضو الكنيست السابق أوري أفنيري سبق وتوقف في كتاباته ومحاضراته عند تفسير سبب انشغال القادة الصهاينة المؤسسين أمثال موشيه ديان ويغئال يدين وزئيف غاندي بالآثار في البلاد بعد احتلالها عام 48. ويقول إن هؤلاء وسواهم قاموا بأعمال حفر وتنقيب أينما شاؤوا في البلاد وسلبوا موجودات تاريخية. ويذكّر بأن أرملة ديان باعت ما جمعه زوجها من آثار بعد وفاته بمليون دولار قبل نحو أربعة عقود. لكن الأطماع المالية لم تكن الهدف الرئيسي لدى هؤلاء الساسة الإسرائيليين الأوائل وفق تأكيدات أفنيري، الذي يشدد على رغبتهم بتحقيق أهداف سياسية مفادها تعميق جذورهم التاريخية في البلاد والتعرف عليها وإثبات الصلة بينها وبين التوراة. ويوضح أنهم اهتموا بالآثار وبالتوراة معا لأن التعرف على تاريخ البلاد أمر حيوي جدا لتحويلها لوطن وبالاستعانة بالأساطير. ويتابع «أرض إسرائيل» كانت بالنسبة لهم وطنا متخيلا وغريبة عليهم ولم تناسب مناظر طفولتهم ولغتهم».
حيوية الأسطورة
ويشير الى أن ذلك أثار مشاكل لأن الصهيونية ومن أجل تبرير وجودها كان عليها التدليل على أن التوراة ليست أسطورة أو نصا دينيا بل وثيقة تاريخية. وبهدف التأكيد على رؤيته بأن التوراة منذ خروج مصر حتى مملكتي شاؤول وداوود أسطورة يوضح أفنيري أنه لم يعثر على دليل مادي واحد يقول إن هذه حقيقة. ويتابع «وثق الفراعنة تاريخ فلسطين أيضا وفي سجلاتهم لم يذكر شيئا عن أحداث وردت في التوراة «.
في المقابل يزعم باحث الآثار الدكتور غابي بركائي من جامعة بار إيلان أنه عالم آثار وملتزم بمعاييره رغم أن منظمة «العاد» الاستيطانية تمول بعض مشاريع التنقيب عن الآثار. وهذا ما يرفضه بالكامل الدكتور يونتان مزراحي من مجموعة «عيمق شافيه» للأثريين المستقلين والذي يشدد بكل أبحاثه على تطابق الآثار مع الأيديولوجيا، مدللا على ذلك بوجود رغبات ومواقف للباحث الأثري. ويقول أيضا إن المكتشفات الأثرية ليست واضحة تماما، ما يعني فتح الباب أمام تفسيرات الأثريين، مشددا على أن الآثار ليس علما دقيقا وقدم عينات على ذلك. وبخلاف أثريين إسرائيليين كثر يؤكد مزراحي أن علم الآثار يتأثر بالتوراة لكونها جزءا من هوية الإسرائيليين.
أضف تعليقك