
امكانيات الإصلاح وأسباب الفشل في المغرب خلال القرن 19
” …ثم علينا ان نلتفت من جهة أخرى الى ان جميع تدابير الإصلاح المتخذة آنذاك في المغرب، الجسيمة منها او التافهة كانت على يد الدولة وحدها ان لم تكن احيانا على يد السلطان بصفته فردا،.. ذلك ان البلدان التي تطورت فعلا في التاريخ لم ينجح فيها الإصلاح الا بمشاركة طبقة اجتماعية بل طبقات ذوات قوة اقتصادية نامية، ومعتبرة، كانت هذه الطبقة بإنجلترا الطبقة البرجوازية مع طائفة من النبلاء، وفي فرنسا أيضا كانت البرجوازية التي لعبت دورا أساسيا في التطوير، … ولم تكن بروسيا أيام المصلح المشهور ‘بيتروس’ الأكبر، طبقة برجوازية تعتبر، فاعتمد القيصر المذكور على طبقة النبلاء الجدد التي انشاها بتوزيع -على افرادها- ما كانت الدولة تملكه من الأراضي المهملة شاسعة الأطراف.
ومثله يقال عن ‘فريدريش الثاني’ ببروسيا اذ اعتمد هذا على الفيوداليين الصغار من جهة وعلى اللاجئين البرجوازيين الفارين من الدول الكاثوليكية.
اما الدولة المغربية فلا تتوفر على مثل هذه الإمكانيات، وفيما يخص الطبقة البرجوازية لم يقدر لها ان تنمو في هذه البلاد مادامت جامدة فيها التجارة التي هي مصدر القوة البرجوازية، بل لم يأخذ التجار المغاربة في التكثر والتضخم، -طول القرن الماضي- الا بالتشارك مع التجار الأجانب فاصبحوا مساعدين لهؤلاء الأجانب بل في خدمتهم، أي انهم لا يؤيدون أي اصلاح يرمي الى تحرير البلاد من وطأة الأجانب بل يريدون بالعكس هذا الإصلاح المزعوم الذي يشد الخناق على المغاربة.
مما تقدم تجلت اذن قلة الإمكانيات لنجاح اصلاح صحيح كفيل بإنقاذ المغرب من السيطرة الأجنبية آنذاك، فهل نقف عند هذه النتيجة ام نزيد فنقول ان الإمكانيات كانت منعدمة على الاطلاق؟
لا يخفى قبل الجواب عن هذا السؤال، ان الخيال مزلق كلما حاول المؤرخ ان يتصور أمور الماضي في مجرى مخالفا للذي جرت عليه فعلا، لكن مردي ليس الاستسلام الى الخيال، انني كنت تورعت من الاقبال على هذا السؤال لو لم تظهر في التاريخ نفس أسس الجواب.
ذلك ان هدف الإصلاح الأول كان إيقاف التدخل الأوربي ورده، فهل كانت في البلاد، زيادة على المخزن ومع انعدام طبقة برجوازية قوية وطنية، قوة أخرى قادرة على تأييد هذا الإصلاح وتوقيفه؟ المجيب هو التاريخ.
فقد سبق للمغاربة ان أوقفوا ودفعوا الغزو الأوربي في القرون السابقة، وماهي القوة التي مكنت هذا التوقيف في وقت كان فيه المخزن الوطاسي قد انحل؟
هذه القوة برزت من أعماق العامة من فلاحي القبائل، وعلى اساس هذه القوة تكون مخزن جديد قادر على مقاومة العدو وإعادة النظام في البلاد، أي انه أصلح المخزن.
هذا في ما يخص الماضي، اما الان-اعني في القرن التاسع عشر- هل ظلت هذه القوة موجودة مستعدة؟ وان كان الجواب بنعم، الم تصبح عاجزة عن الثبوت إزاء القوة المدهشة التي يندفع بها الاستعمار العصري؟
جوابا عن السؤال الأول يمكن القول ان هذه القوة مازالت موجودة ومستعدة كما ظهر ذلك أولا بنهوض قبائل الشاوية والقبائل التي التفت لرفع مولاي عبد الحفيظ الى العرش بعد عجز أخيه عبد العزيز، وظهر ذلك ثانية بنهوض جميع قبائل سوس والحوز لرفع احمد الهيبة الى العرش لما عجز عبد الحفيظ بدوره.
لكن المحاولة الأولى باءت بالفشل كما باءت به المحاولة الثانية، هل يستنتج من ذلك ان يكون الجواب بلا عن السؤال الثاني أي ان القوة الشعبية أصبحت ضعيفة بالنسبة الى الاستعمار العصري؟
ها هي القبائل الريفية تأتينا بالجواب، هي التي انزلت هزائم فظيعة على الجيش الاسباني من جهة وعلى الجيش الفرنسي من جهة أخرى مقتصة قصاصا فاضلا من هزيمة اسلي ومن هزيمة تطوان مع انها لا تمثل الا نصف عشر القبائل المغربية ومع ان جيش ليوطي اقوى من جيش بيجوا اضعافا مضاعفة.
أي ان القوة الشعبية المذكورة موجودة ومستعدة وقادرة على الثبوت وعلى الانتصار بما يشترطه ذلك من الانتظام والترتيب والابتكار والتفكير الحي الخالق او قل قادرة على هذا الإصلاح المنشود.
كانت لكنها ظلت مهملة، بل ما فتيء الحكام يخشونها ويبذلون جهودهم لحبسها لانهم لا يرون في هيجانها الا فرصة يغتنمها الأجانب لمزيد من التدخل كما وقع فعلا في وجدة والدار البيضاء سنة 1907 هذا هو راي مولاي عبد الحفيظ نفسه بعد ان كانت هذه القوة هي التي رفعته الى الحكم ففضل الانعزال الذي أدى به الى الاستسلام للفرنسيين وخشية منه ان تنفرج هذه القوة او امتناعا منه ان يعتمد عليها او غير مقتنع بصحتها، على ان هذه الأسئلة خارجة عن موضوعنا، انما المهم في حدود الموضوع ان نعترف بوجود هذه القوة وخصالها وامكانياتها واستمرارها.
والمهم أيضا ان نلاحظ انها اهملت، حبست، قمعت في حين ان فيها الامكانية الوحيدة لنجاح أي اصلاح.
لا غرابة اذن في ان جميع المحاولات الإصلاحية التي قام بها المخزن قدر عليها الفشل، وهذا يفسر في الوقت نفسه ان المشاريع الإصلاحية التي تقدم بها الفقهاء المغاربة لم تزد على ان تكون حبرا على الورق، اشباحا دون أي جسم، دخانا تلعب به الرياح.
حتى اذا مر الزمان يسيرا اقام التاريخ الدليل بالضد، بان النجاح قدر للحركة الإصلاحية لما تحركت عامة الشعب ودخلت المضمار، وهذا المنعطف التاريخي تم في الحرب الريفية.
التعاليق