عرفت الدول العربية ابتداءً من سنة 2018 موجة جديدة من الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية، أو ما سمي بالنسخة الثانية للربيع العربي، كتصحيح للموجة الأولى التي عرفها العالم العربي سنة 2010، والتي كانت نتائجه كارثية مقابل نتائجه الإيجابية المحدودة، تجلت في النموذج التونسي، الذي يبني مساره السياسي بشكل سليم، في حين أن الدول العربية الأخرى كسوريا، اليمن، ليبيا، ومصر لازالت تصارع زمنها السياسي.
ولم تمنع الانتكاسة الأولى للحركات الاحتجاجية لشعوب المنطقة، من انطلاق موجة جديدة من الحركات الاحتجاجية. أولا في السودان ضد النظام السوداني الذي كان يمثله عمر البشير تحت شعار #تسقط_بس، ثانيا في الجزائر الذي كان يمثل نظامها السياسي توفيق بوتفليقة تحت شعار “لا للعهدة الخامسة”، “ويتنحاو_كاع”، ثالثا الاحتجاجات التي عرفتها مصر ضد عبد الفتاح السيسي تحت شعار “كفاية بقى يا سيسي”، رابعا الاحتجاجات التي تعرفها لبنان ضد النظام السياسي اللبناني الذي يمثله ميشيل عون تحت شعار “كلن_يعني_كلن”، ثم الاحتجاجات العراقية المطالبة بدورها بتغيير النظام وعلمانية الدولة.
احتجاجت السودان: “تسقط_بس” والحكومة مدنية
انطلقت الاحتجاجات السودانية في 19 دجنبر 2018، بدء ببعض ولايات البلاد، وتزعم هذه الاحتجاجات التجمع المهني للسودانيين، ضد غلاء المعيشة، وارتفاع الأسعار، والفقر وأيضا البطالة، وانعدام الحريات السياسية والمدنية كقمع المعارضين المدنيين والسياسيين. وعرفت الاحتجاجات السودانية، رد فعل عنيف من قبل السلطات وقوات الجنجويد، التي استخدمت مختلف وسائل أنواع القمع لتفريق المحتجين، وعلقت السلطات وقتئذ الدراسة خصوصا في العاصمة، وأعلنت حالة طوارئ بالبلاد، وفرض حظر التجول في بعض الولايات، وتم اعتقال بعض قادة المحتجين. لكن الاحتجاجات استمرت، بعدما واصل المحتجون اعتصامهم أمام مقر القيادة العامة، مطالبين بتنحي الرئيس وإسقاط النظام، تطورت الأمور لتتخذ منحى آخر خصوصا بعدما قتل 5 عسكريين، وذلك بعد اشتباكهم مع قوات الأمن التي تدخلت لقمع الاحتجاجات، ومع تطور الأمور عقد الجيش يوم 11 أبريل 2019، اجتماعا بدون عمر البشير، مع إغلاقه المطار الدولي للسودان وتطويقه للقصر الرئاسي الذي عمر فيه البشير 30 سنة، ليصدر الجيش بيانا أعلن فيه اعتقال الرئيس، وتشكيل مجلس عسكري لمدة سنتين، وتعليق الدستور، وحل المجلس الوزاري، وحكومات الولايات والمجلس التشريعي.
بالرغم من هذه الاجراءات التي قام بها الجيش، استمر الشارع السوداني في الاحتجاجات مطالبا تنحي المجلس العسكري وتشكيل حكومة مدنية، الأمر الذي أدى بأحمد عوض بن عوف الذي ترأس المجلس العسكري للاستقالة، وعين بدله عبد الفتاح البرهان، ومع ذلك استمرت الاحتجاجات قرب القيادة العامة للمجلس العسكري متشبثة بمطلبها الرئيسي، وهو حكومة مدنية، في محاولة للضغط على المجلس العسكري، خصوصا بعد انضمام عدد من القضاة للتظاهر ومطالبتهم محاسبة السلطة العسكرية التي كانت مساهمة في مجزرة دارفور. ومع اشتداد الاحتجاجات، فرض على المجلس العسكري أن يعقد اجتماعات مع قادة المحتجين، واتفق الاثنان على تشكيل حكومة مشتركة مهمتها وضع خارطة طريق مستقبلية للسودان بعد حكم البشير.
ولم تلقى هذهِ الدعوة قبولاً كبيرًا في أوساط المُحتجّين ونفس الأمر بالنسبة لتجمع المهنيين فيمَا دعا تحالف الحرية والتغيير والذي يضمّ تحتَ لوائهِ مُختلف التيارات المشاركة في الاحتجاجات، الشعب إلى مواصلة المُطالبة بحكومة مدنية مؤكدًا في الوقتِ ذاته على استمرار الاعتصامات من أجل حماية الثورة وفي الأول من ماي، اتهمَ تجمّع المهنيين السودانيين المجلس العسكري بمحاولةِ فض الاعتصام القائم في ساحة القوات المُسلحّة وذلك بعدَ تعثر جولة ثالثة منَ المفاوضات بين المجلس وتحالف قوى الحرية والتغيير لتشكيل مجلس سيادي لقيادة البلاد، ودعا إلى تنظيم مسيرة مليونية من أجل السلطة المدنية، وتم ذلك بالفعل مع استمرار الاحتجاجات والمفاوضات بين المجلس العسكري والتجمع طيلة شهر رمضان 2018.
وإلى جانب هذا تلقى المجلس العسكري دعما ماليا من الإمارات والسعودية، بالإضافة إلى زيارة مصر والسعودية من قبل حميدتي والبرهان، وكان يعرف الداخل السوداني قمعا شرسا ومقاومة أيضا من قبل المحتجين، وعرف يوم الثالث من شهر يونيو 2019 مجزرة كان سببها قوات الدعم السريع/ قوات الجنجويد، “ميليشا تابعة لحميدتي” أدت إلى سقوط 30 قتيلا وأزيد من 116 جريح حسب ما أحصته اللجنة المركزية للأطباء، وفي اليوم الرابع تم إيقاف الأنترنت بعد بدء العصيان المدني من قبل المحتجين.
بعد ستة أشهر من الاحتجاجات، أصدر المجلس العسكري الانتقالي في السودان مرسوما بتشكيل المجلس السيادي الذي سيقود المرحلة الانتقالية لمدة 39 شهراً. ويتكون المجلس من 11 عضوا، هم ستة مدنيين وخمسة عسكريين، يرأس هذا المجلس عبد الفتاح لمدة 21 شهر و18 شهرا لرئيس مدني بعده، وحدّدت خارطة الطريق التي اتفق عليها الجنرالات وقادة الاحتجاج اسم رئيس الوزراء وهو عبد الله حمدوك، الخبير الاقتصادي السابق في الأمم المتحدة والمقيم في أديس أبابا، لتولي المنصب.
شعب الجزائر؛ “يتنحاو كاع” ولا للعهدة الخامسة
عرفت الجزائر بدورها احتجاجات شعبية ابتدأت يوم 22 فبراير 2019، تحت شعار لا للعهدة الخامسة، وطالبوا في البداية بعدم ترشح الرئيس السابق بوتفليقة الذي حكم الجزائر منذ 1999 لفترة رئاسية خامسة، خاصة وهو الرئيس المقعد، وإلى جانب هذا المطلب السياسي، كانت هناك مطالب ذات طابع اجتماعي تتجلى في تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية.
ومع استمرار احتجاجات الشعب الجزائري، دعا بوتفليقة آنذاك إلى تأجيل الانتخابات، وتعهد بعدم ترشحه للعهدة الخامسة، كما دعا أيضا إلى تشكيل حكومة تكنوقراطية تدبر المرحلة، وطالب بتنظيم حوار وطني شامل قبل الانتخابات، قوبلت بالرفض من قبل المتظاهرين لتتواصل احتجاجات الجمعة، ليقوم بدعوة قائد أركان الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صالح، إلى تفعيل المادة 102 من الدستور، القاضية بوجوب اجتماع المجلس الدستوري في حالة ما استحال على رئيس الجمهورية أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن واختيار رئيس مجلس الأمّة للقيام بمهام رئيس الدولة لمدة أقصاها تسعون يوما؛ تنظم خلالها انتخابات رئاسية ولا يحَق لرئيس الدولة المعين بهذه الطريقة أن يترشح لرئاسة الجمهورية. وبعد ستة أسابيع اضطر القايد صالح إلى تفعيل الدستور، وانتهت إلى تقديم بوتفليقة لاستقالته، وتسليم رئيس مجلس الأمة عبد القادر بنصالح مهمة رئيس الجمهورية، بالرغم من الرفض الشعبي الذي تلقاه هذا الأخير، لكونه جزء من النظام السياسي الحالي.
في خضم ذلك تم اعتقال رموز النظام السابق والتي تتمثل في سعيد بوتفليقة أخ الرئيس الجزائري السابق، وطرطاق رئيس المخابرات الجزائرية والجنرال توفيق، بالإضافة إلى اعتقال لويزة حنون، زعمية حزب العمال الجزائري المعارض، والحكم عليهم بتهم التآمر على الدولة وتغيير النظام ب15 سنة سجنا.
ولحدود الان لا يزال الشارع الجزائري مستمرا في احتجاجاته رغم كل الإجراءات التي اتخذها القايد صالح، من اعتقال بعض رموز النظام الجزائري، وغيرها من الإجراءات السياسية.
المصريون: “كفاية بقى يا سيسي”
قامت الاحتجاجات بمصر بدعوة من المقاول والفنان المصري محمد علي، الذي كان ينشر عبر حسابه الشخصي من خلال “فيديوهات مباشرة” خلافه مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ويتجلى هذا الخلاف في كون أن محمد علي كان متعاقدا مع الجيش المصري، وبنى هذا الأخير قصرا للسيسي وخمس فيلات لأصدقائه حسب ما يروي، واتهم هذا الأخير السيسي بهدر المال العام والفساد والقمع الذي يوجهه ضد الشعب المصري.
وعليه وجه محمد علي من اسبانيا البلد الذي يقيم فيه رسالة الى الشارع المصري من اجل النزول إلى الشارع يوم 20 شتنبر 2019، لإعلان رفضهم استمرار السيسي في الحكم ، وعرفت هذه الدعوة تجاوبا محدودا بالمقارنة مع الاحتجاجات التي عرفتها مصر في 25 يونيو 2011، وذلك بسبب القمع القوي واليد الحديدية التي تحكم مصر الشأن الداخلي.
جميلات لبنان؛ “كلن يعني كلن” مدنية لا طائفية
17 أكتوبر 2019 الشرارة الأولى لاحتجاجات لبنان، كانت مجرد صرخة تندد بفرض الضريبة على الواتساب والتطبيقات المشابهة، لتتحول بسرعة الى احتجاجات واسعة شارك فيها الشعب اللبناني بشكل كبير، وتمتد المطالب الى كافة مناحي الحياة، من خلال المطالبة بتحسين الاوضاع المعيشية التي يعيشها اللبنانيون، كتراكم الأزبال، والديون، والحرائق التي عرفتها لبنان مؤخرا، إذ طالب المحتجون بتغيير النظام السياسي وتجاوز نظام الطائفية بلبنان. وبالرغم من الورقة الإصلاحية التي قدمتها الحكومة اللبنانية يوم 21 أكتوبر 2019، كخفض العجز، وخفض أجور الوزراء والبرلمانيين إلى النصف، وتقديم الدعم للفقراء، استمر الشارع اللبناني بالتظاهر.
في 24 أكتوبر، خاطب الرئيس ميشيل عون، داعيا المتظاهرين للحوار لإيجاد الحل، وطالب بمحاسبة الفاسدين، ودعا أيضا إلى إصلاح حكومي، وبالرغم من ذلك استمر اللبنانيون في احتجاجاتهم، مطالبين بإقالة الحكومة وتغيير النظام، ليخرج بعدها حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله مناصريه إلى التخلي عن الشارع، مبررا ذلك بكون الاحتجاجات تخدم أجندات خارجية، وتهدد مصلحة ووحدة الوطن.
وفي سياق هذه التفاعلات لازال الشارع اللبناني مصرا على مطالبه الاجتماعية والسياسية، من أجل تغيير الوضع بلبنان التي تعيش تخبطات سياسية واجتماعية واقتصادية كباقي البلدان العربية.
العراق: مدنية لا طائفية
عرفت العراق بدورها تظاهرات انطلقت ابتداء من فاتح أكتوبر 2019، احتجاجاً على تردّي الأوضاع الاقتصادية للبلد، وانتشار الفساد الإداري والبطالة. ووصلت مطالب المتظاهرين إلى استقالة حكومة عادل عبد المهدي، وتشكيل حكومة مؤقتة وإجراء انتخابات مبكرة.
وواجهت القوات الأمنية هذه المظاهرات بعنف شديد واستعملت قوات الأمن صنف القناصة لاستهداف المتظاهرين بالرصاص الحي، مما كلف العشرات من القتلى، وتعتبر هذه التظاهرات الأكثر وقعا بعد هجوم داعش على العراق، سنة 2017.
ودخلت الدولة العراقية في سلسلة من الاضطرابات العنيفة، حيث تم اغتيال الناشط ورسام الكاريكاتير حسين عادل المدني مع زوجته سارة في منزلهم في البصرة بواسطة عدد من المسلحين الملثمين، بسبب مشاركتهم في الاحتجاجات، وأعلنت السلطات العراقية حظر التجوال في العاصمة بغداد، واغلقت الطرق المؤدية إلى ساحة التحرير، وكذلك تم حظر مواقع التواصل الاجتماعي، وقطع خدمة الإنترنت في جل أنحاء البلاد، كما تم اعتقال مجموعة من الناشطين السياسيين.
وفي يوم 6 أكتوبر وعد رئيس الوزراء العراقي عبد المهدي بتنفيذ حزمة قرارات لمكافحة الفساد، ووعد بتوزيع قطع أراضي وتوفير رواتب للعوائل التي لا معيل لها، وفتح باب التطوع في الجيش، الا ان الشارع لم يتجاوب مع هذه الوعود، واستمر العراقيون في احتجاجاتهم يطالبون بتغيير النظام وعلمانية الدولة، وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية.
احتجاجات تفرقها الجغرافيا بهموم واحدة
استوعبت الشعوب العربية الدرس السياسي من الموجة الأولى لما سمي بالربيع العربي، وكيف تم الالتفاف عليها من طرف مجموعة القوى الداخلية والخارجية، وتغيير مسارها الطبيعي، حتى صار خريفا ربيعيا، لم تستفد منه الشعوب، وهذا ما يمكن ملاحظته بكل من الجزائر ولبنان، إذ توحدا شعبيهما حول العلم الوطني، وتجاوزوا الخلافات، اما الملاحظة الثانية فهي أن هذه التظاهرات العربية بكل من الجزائر ولبنان والعراق ومصر إلى حد ما لم تعرف متزعما وممثلا لها، على عكس السودان التي كان يمثلها التجمع وقوى الحرية والتغيير، اللذان سهرا على تنظيم الشعب السوداني حتى بلغوا ما بلغوا إليه، بالإضافة إلى وطنية الاحتجاجات التي رفضت كل تدخل أجني، مستفيدة من الدرس السوري والليبي واليمني.
Warning: Undefined variable $postData in /home/ifada/public_html/wp-content/themes/NewsPaperOne-Light/template-parts/content/content-single.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on null in /home/ifada/public_html/wp-content/themes/NewsPaperOne-Light/template-parts/content/content-single.php on line 55
Warning: Attempt to read property "ID" on null in /home/ifada/public_html/wp-content/themes/NewsPaperOne-Light/template-parts/content/content-single.php on line 55
أضف تعليقك