الممثلة هدى الريحاني : قوة خارج الكلام الذي يشبه شرائح الثلج!
كأنك أمام متسلقة جبال، لا تعير اهتماما للجدران، ولا لكل تلك السفوح التي غادرت توابيتها. وحدها الأراجيح تقودها إلى القمة، لا تُعقِّم لسانها لتتكلم، ولاترتدي قفازات أو باروكات أو أقنعة لتقودك، كجدول واثق، إلى عروق الذهب في الأرض. هدى الريحاني، الممثلة القوية، التي لا تراهن أبدا على نفاذ الصبر، ولا على كوكبة المديح العالي، ولا على ذلك الفرح المؤجل من جيل إلى جيل، لا تحتاج إلى اعتراف موضب على المقاس، ولا إلى نزهة مظلمة في الزقاق الخلفي للإعلام؛ فهي تدرك أن الطفولة أرضها، وأن الأعشاب ثروتها. ولدت هدى الريحان في خاصرة منزل منغرس في حقول«النواصر» (نواحي الدار البيضاء) ، صبية بدون جدران، ولا كابح لأقدامها وأحلامها. ومازالت، إلى الآن، تبتهج لرائحة الكاليبتوس والطين المبلل بالمطر. مازالت تُرتِّب، حين تلمس طفولتها بما يلزم من حنان، الغيومَ العابرة وسنابل القمح وأسراب النمل وشقائق النعمان والخبيزاء والحميضاء.. وكل المنازل المتوجة بالقرميد الأحمر والأبراج والاصطبلات والزرائب.. صبية تغمس كسرة الخبز المحمص في الزيت (زيت العود)، وهي محاطة بالأهل وقوافي الريح والسعال الخافت في الليل.. صبية لا تبيع التثاؤب ولا الجلوس الشارد أمام الباب، ولا تنهي اليوم إلا بشن غزوات مرحة على الغابة. لا تركب حصانا، بل أرجوحة، ولا تنحني على جريح، بل على طير خانه الجناح، ولا تعود إلى الأمشاط والدمى إلا وهي منهكة بالغروب والبساتين وضحكات الأقران التي تتطاير في كل مكان كشلال من العصافير. حين تتذكر هدى كل ذلك تنحني وكأنها تعبر بوابة، وحين تتجمع الغيوم في سماء حزنها القديم يتدفق الدمع ويعسُر الكلام وتتشابك الأصابع التي تضعط بقوة على الرُكب، كأن سربا من النحل قد هاجمها، كأن الإبر تثقب الأقدام والجوارب! ولَئِن كان لا بد للطفلة أن تنمو، وأن تتلقى البساتين صفعة العمر، فما إن بلغت هدى ست سنوات حتى ألبسوها ضفيرتين ومريلة بيضاء وحقيبة مدرسية، وقادوها من يدها لإلقائها في إحدى رياض برشيد. كان رأسها، آنذاك، ممتلئا حتى آخره بالعصافير والفراشات والأحلام والأمنيات؛ لم تستوعب عصا المعلمة التي تطفئ أي بارقة حلم، ولم تستوعب صراخها، ولا قردها ولا برتقالها ولا بقرتها. ليس هذا ما كانت تنتظره: أبواب مغلقة وطلاسيم غائمة ووجوه مكفهرة وحروف متلاطمة ورؤوس مطأطئة.. ولأنها كسرت، ذات تمرد بارد، إحناء الرأس، تلقت صفعة مازالت مرسومة تحت جلد الخد.. فقط لأن المعلمة كانت تشرب الحليب وتأكل الخبز ولا ترغب في أن يراها الأطفال مستفردة بوليمتها.. كانت أول صفعة في العمر وأول خنجر في الخصر.. ولم تمكث في المنفى إلا شهرا واحدا.. كان الجحيم! وحين تسلقت أول درج في أقسام الابتدائي، اصطدمت بمعلم كان يضربها بسبب أو بدونه، كما لو كان في نزهة على الشاطئ، ومازال السؤال عالقا: «لا أعرف لماذا كان يضربني ذلك المعلم!». ولم يأت الفرج إلا مع معلم من «بلاد تربوية أخرى»، اسمه رضوان خليل، معلم بدون عصا ولا تجهم. كان مثل أب يحنو على أبنائه، يدس الثقة بين ضلوعهم، ويحرضهم على محبة المعرفة. «لن أنسى هذا المعلم ما حييت، معه أصبحت أكثر نضجا وثقة، ومعه حصلت على معدلات مرتفعة لم أكن أحلم بها، ومعه أصبح والدي رحمه الله يعاملني معاملة أخرى، ومعه اكتشفت معنى التعليم..». ولأن التنقل كان قدرا يطارد هدى، فسرعان ما انتقلت أسرتها، بحكم عمل والدها، إلى «بن أحمد». كان الانتقال صعبا ومليئا بالشروخ. «رغم ذلك، لم يخل هذا الاقتلاع من مصادفات جميلة وحاسمة، ففي مدينة بن أحمد تعرفت على صديقة العمر التي مازالت «علبة أسراري ووسادتي إلى الآن، وفيها غرقت حبا في المسرح، وعرفت أن التمثيل مهنتي. ويرجع الفضل في ذلك إلى أستاذين فاضلين كان يشرفان على «محترف المسرح»، وكانا يذكيان فينا روح الإبداع. هذان الأستاذان أدخلاني بفرح كامل إلى عوالم جميلة غيرت حياتي رأسا على عقب، ومنحتني ثقة في نفسي، وكانت الشمعة التي مازالت تضيء لي الطريق. مع هذين الأستاذين، اكتشفت «مسرحة الشعر» وفن الإلقاء و«المسرح الجامعي»، وهما اللذان قاداني، وخاصة أستاذ اللغة الفرنسية، إلى ولوج «المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي»، أي إلى أغنى وأجمل مرحلة في حياتي، مرحلة الانفعالات والصداقات والاكتشافات الكبيرة، والجواب على كل الأسئلة الوجودية التي ظلت عالقة في رأسها كأجراس مقصلة»، هكذا تبوح هدى بدون افتعال. في «المعهد»، التقت، مع زملائها وزميلاتها، وجها لوجه مع بيكيت وبريخت وشكسبير ويونيسكو وتشيخوف وغولدوني وستانسلافسكي وغيرهم. وفي المعهد بدأت تكتشف أنها عادت إلى أراجيح الطفولة، إلى تلك البساتين الفسيحة.. إلى رائحة التراب والأوكالبتوس.. إلى تلك الصبية التي ترقد بين الأعشاب وعيونها تتطلع إلى النجوم والغيوم كمن تنقب عن عروق الذهب في السماء.. إلى مرحلة ما قبل الصفعة! وفي المعهد، بدأت تدرك العلاقة الجدلية بين الملح والعطش.. وبدأ التطلع إلى الارتواء يقودها تدريجيا إلى الملح، حيث واجهت «الكاميرا» بدون سلاح. كان زادها هو قدرتها الكبيرة على التقمص والتعبير والنفاذ إلى أعماق الشخصية، وكان دليلها هو تلك الطاقة الزائدة التي تشربتها من «دروس المسرح»، وما تصنعه، الآن، وراء «الكاميرا» لا علاقة له بتاتا بالصدفة، ولا علاقة له بـ«الفوتوجينيك»، ولا بـ«مفكرة الهاتف» التي تؤرق الكثيرات. لم تنس هدى أصدقاءها الكثيرين الذين يحملون «الجمرة». «بعضهم هاجر بحثا عن كسرة كريمة، وبعضهم لم يكمل المنعطف، وآخرون تجلدوا رغم المصاعب، وواصلوا بشجاعة..»، وهي من هؤلاء الذين يريدون أن يذهبوا في التمثيل إلى حدود الشمس، بأدوار واضحة، وأداء مقنع. هدى الريحاني، التي تتطلع بكل صبر إلى فرصة تخرج ما في بئرها من طاقة، أدت بنجاح مجموعة من الأدوار السينمائية والتلفزيونية والمسرحية.. ولأجل ذلك، يقودنا نجاحها إلى القول إن هذه الممثلة قادمة وبإمكانها، مع القليلات (خاصة السعدية لديب)، أن ترفع المشعل وأن تنقذنا من الافتعال والبرودة.. فيكفي أن نلتفت قليلا لنطل على الدولاب.. المصابون، فيها الملح والسكر ومابغاتش تموت، دواير الزمان، الخيول تسقط تباعا، ليلة ممطرة، رحمة، وجها لوجه، خيط الروح، رأس الخيط، تمزق، انكسار، حياة أخرى، البرتقالة المرة، بالكون أتلانتيكو.. إضافة إلى أدوارها المسرحية، مثل: الرقصة الأخيرة، حراز عويشة، رحلة العطش، حنة يدينا، أركونوت..إلخ. إننا أمام ممثلة مغربية من أرض حقيقية لا تقول: «نسيت شكل الحقل والبستان، وأبدا لم أملأ أحشائي بالقهوة الباردة».. ممثلة خارج التصنع، وخارج الكلام الذي يشبه شرائح الثلج!