في ظل كل ما يعرفه العالم اليوم من أحداث عدوانية وعنصرية متفرقة هنا وهناك، أحداث عابرة للقارات والجغرافيات، يسعى الفنانون جاهدين إلى مواجهة هذا المد المتطرف بما أوتوا من عتاد فني وأفكار خلاقة. وإن كانت أحداث السنوات الأخيرة هي التي أدار وجه العالم نحو ما يهدده من عنف جديد، وأوجب التعامل معه إلى جانب استعمال القوة والحرب العسكرية، باستعمال “استراتيجية فنية” قوامها الاستعانة بالفن فكرا وممارسة، لوقف زحف الفكر المتطرف. فإنه لم يكن أبدا الإنسان الميال إلى العنف والدمار، -بما فيه الإرهابي- بمعزل عن الفن، بل إنه ليس هو ذلك المتطرف الساذج فحسب. إذ يتخطاه إلى عنف ممنهج دوليا وإيديولوجيا يعتمد على نظام محكم تتحكم فيه قوى كبرى بعينها؛ حيث عرف العالم نموذجا إرهابيا عماده الدولة الشمولية التي قادها هتلر في زمن الحرب العالمية الثانية لغزو العالم، وهو ما أحدث تغيرا كبيرا على مجريات التاريخ الفكري والسياسي والفني من بعده. مستعينا النظام النازي لذلك بالفن أو بالأحرى بسياق وتيار فني معين ومستبعدا ومدمرا باقي التيارات والأعمال التي لا تدخل في “استراتيجيته الفنية البطولية”. مصنفا الفن إلى تيارين: بطولي ومنحط. •بين البطولية والانحطاط: لم يسلم أدباء وفنانون غربيون كثر من تهمة العنصرية، إذ بعضهم ارتبط اسمه بالانتماء إلى النازية أو العمل على الدعاية إليها، والعمل لمصلحتها، أو على الأقل التعاطف مع هذا النظام العنصري، الذي صنف الفن إلى تيارين “فن منحط” (بالألمانية: Entartete Kunst) و”فن بطولي”. إذ استخدم النازيون “الفن المنحط” لتسمية وتشويه ما يعتبرونه فنًا معادلا للفن “غير النقي”، مقارنةً بالتعبير العنصري “الفن النقي”: الفن الألماني الحقيقي. وقد تمت تسمية الفن الحديث بشكل عام بـ”المنحط”، ليتم اضطهاده وفقًا لذلك، من خلال سياسة ثقافية تتمثل في التحكم المنهجي والنفي القسري والترحيل والحرق والمصادرة، وإقامة معارض تظهر ما سُميَ بـ”تدهور الفن”. أما الفن البطولي، فهو الفن الذي كان يخدم الترويج للعرق النقي، وتحريره من التشويه والشوائب، كما يذهب إلى ذلك النازيون، في حيث أن الفن غير البطولي أو المنحط هو وليد الفنون الحديثة التي انحرفت عن النموذج الجمالي الكلاسيكي، الذي كان يمجد الإنسان وقواه. إذ يعتقد أصحاب هذه الرؤية أن الفنانين المنتمين إلى “العرق النقي” (العرق الآري) ينتجون فنا صافيا، يخدم العرق ونماءه وتطوره وتقدمه، وبمقابل فالفنانون الذين تبنوا الحداثة في الفن هم فنانون لا ينتجون إلا فنا لا يخدم المصالح الآرية، لهذا ففنهم يعد فنا منحطا. وقد ادعوا أن الفن الحديث هو فن أنتجه اليهود ودعموه، لهذا جعل النظام النازي من الشرف رفض أي فكر وأي فن يُرى بأنه نتاج عن اليهود. ومعه فلابد أن يخدم الفن البطولي دورا في معاداة السامية واليهود. ورغم الهجوم الشرس الذي قام به نظام هتلر على الفن الحديث بكل أبعاده، فقد تعاطف بعض الرسامون التعبيريون الألمان مع هذا الهجوم، أمثال إميل نولدي Emil Nolde، إذ كانوا متعاطفين مع الاشتراكية القومية الألمانية. ومع ذلك، وبسرعة كبيرة، فإن المبادئ المحددة في مؤلف “كفاحي” لهتلر، هي التي سادت، وبالتالي تم مهاجمة الفنانين المتبنين للتيارات الحداثية رغم تعاطفه المعروف مع هذا النظام. •المعرض النازي العنصري: ما بين شهري يوليو ونونبر 1937، أقام النظام النازي بميونخ معرضا ضخما (ليس الأول من نوعه) تحت مسمى “الفن المنحط”، والذي تم تقديمه باعتباره معرضا للفنان البلشفيين واليهود. وقد كانت اللجنة المسؤولة على اختيار الأعمال تتكون من المصور الصباغي الألماني أدولف زيغلر والمؤرخ الفني كلوز فون بوديسين، الذي سيصير فيما بعد ضابطا في منظمة إيس إيس النازية la Waffen-SS، والرسام وولفغانع وأيضا الفنان هانز شويتزر. قدم هذا الحدث 730 عملا فنيا لمئات الفنانين، تم اختيارهم من بين 20 ألف عمل تم الاستيلاء عليها من قبل المتاحف الألمانية. تحف تعود لجل كبار الفنانين في القرن العشرين، أمثال الفنانين الألمانيين نولدي وكيرشنر وكورينث وفراز مارك، وغير الألمان أمثال بيكاسو وشاغال ومونش وكوكوشكا… تم دعوةُ الزوار إلى هذا المعرض لـمواجهة منجزات “المرضى العقليين” ممثلي الحركة الطلائعية. وهي مواجهة تهدف إلى تسليط الضوء على القرابة بين الفنانين البلشفيين واليهود، ومن أجل شيطنة هؤلاء الفنانين. ولإدانتهم، باعتبارهم “فنانين منحطين”، لا يمثلون الفن النازي الواقعي، ولاشتغالهم طبقا للقواعد التكعيبية أو التعبيرية أو الترقيعية Tachisme أو التجريدية، أو الدادائية أو المستقبلية… تم وضع أعمالهم إلى جانب صور لمرضى عقليين ومجانين، حتى تكتسي تلك الأعمال طابعا مرضيا، أو ما سمي بـ”الطابع المرضي للفن الحديث”، ونعثر على ذلك في كتاب The Art and Race (الفن والعرق)، من تأليف Paul Schultze-Naumburg. ويبين إريك ميشو في مؤلف “فن الخلود”، بأن الفن كان مسألة مركزية في المشروع النازي، باعتباره ما من شأنه أن يعطي الشكل المثالي للعرق. فقد سعى الفوهرر إلى أن يجعل من رجل الدولة “فنانا” أو بالتعبير الآخر “نحاتا للجماهير”، أي أنه متشبع بالرؤية القومية والفن البطولي، الذي يمجد الإنسان والبطولات. وفي ذات الوقت فقد اقتنع هتلر، الذي رأى في نفسه اتحاد فنان ومنقذ (حاكم)، بأن الفن الألماني كان لديه “القدرة على إنقاذ الألمان المرضى لأنه فن بطولي، نرجسي”، فن يجعل الإنسان في المركز معتدّا بنفسه وقوته. ولأن الحلم النازي كان يتمثل في إحداث امبراطورية تدوم لألف عام، وتبقى خالدة، فكان لا بد من الترويج والدعاية لجسد الفوهرر الخالد، الجسد الغامض لـألمانية، وما مهمة الفن بالتالي سوى “إظهار الإله الحامي الذي يسمح لجسد العرق أن يحيا إلى الأبد”. فكانت مهمة معرض 1937، وما شابهه، متمثلة في تطهير هذا الجسد من “المرض”، وكشف “العاهات” الفنية التي لن تخدم خلودها، ولن تبرز بطولاته. •البواعث السرية للهجوم على الفن: ليس فقط الرغبة في خلق فن يبرز مجتمع الرايخ الثالث في قوة وبطولة، هو الباعث الوحيد الذي دفع النازيين، على رأسهم أدولف هتلر، للهجوم على الفن الحديث ومصادرة أعمال لا تكاد تحصى، وتدمير جزء كبير منها. فإلى جانب هذا الغرض الذي كانت تحركه الحملة البروباغندية (الدعائية) النازية، فقد كان هناك دافع سري يقف خلف هذا الجوم الشرس على الفن الجديد، آنذاك. فكما لا يخفى عن أحد، أن “الفوهرر” الذي كان يرغب أن يصير فنانا لم يكن يحظى فنه بأية موهبة، لهذا تم رفضه من قبل مدارس الفن لمرتين. لكن ما لا يعرفه أن حقد هتلر على رافضيه، جعله يحقد على كل الأسماء التي كانت مشهورة ومعروفة في تلك الفترة، أسماء رأى فيها أنها لم تكن تستحق المكانة التي هي عليها… ويا لها من مفارقة أن يكون رفضه من قبل معاهد الفن، هو ما جعل العالم يتعرف على الجانب المظلم لهذه الشخصية المركبة ! حقد هتلر على الفنانين الحداثيين، ينبع من كونه آمن بالرسم الواقعي بالمعايير الكلاسيكية، لما يثيره من حماسة في نفوس المتلقين، وما يرتبط به من رسومات تمجد البطولة. ففي نظره أفسد الحداثيون الفن، وجعلوه أقل تصويرا للإنسان البطل، لاهتمامه باليومي والحياة العابرة، التي لا يمكن أن تحمس المشاهدين، وتمجد الزعماء. كان الحقد والرغبة في الانتقام، هما الدافعان لينتقم هتلر وجماعته من الأعمال الحداثية التي تم وصفها بالمنحطة. فقد مجدت النازية البطولة والانسان، لكنها قامت بتصنيفه تبعا لطبقات عرقية، الآرية في أعلى السلم. كل هذه البواعث هي التي جعلت النظام النازي يقوم بتدمير ومصادرة أعمال كثيرة لإميل نولدي رغم أنه كان يعلن تعاطفه مع ذلك النظام. فمن أجل إنجاح رؤيته العنصرية سعى الرايخ الثالث إلى عدم العمل برأفة حتى مع الأشخاص المخلصين له. •نهاية أسطورة نولدي: وبينما عدّت –سابقا- أعمال الفنان التشكيلي والرسام التعبيري الألماني إميل نولدي، الذي يقول عن أعماله الفنان الشهير بول كلي “نولدي أكثر الفنانين ارتباطا بالأرض، إنه شيطان هذه المناطق، فأينما يقف المرء يكون هذا “العراب” حاضرا، إنه نسيب الأعماق”، عُدّت أعمالا منبوذة من قبل النظام النازي، لهذا كان يُعتبر فنانا مناضلا ضد النازية، على خلفية تدمير مجموعة من أعماله من قبل نظام هتلر، وذلك ضمن الحملة التي انتهجه الرايخ الثالث ضد ما سماه بـ”الفن المنحط”، إذ تم تخريب وإخفاء ما يفوق 1000 عمل فني لنولدي. إلا أنه مؤخرا (في شهر أبريل 2019) تم التأكيد من قبل متحف الفن الحديث ببرلين، على أن إميل نولدي ظل مرتبطا بالنظام النازي ومخلصا له، عكس ما كان رائجا لعقود. ما شكل نهاية “أسطورةَ” فنانٍ وُصف بالمقاوم للنازية. إنها إذن، نهاية أسطورة فنية ألمانية، كما يؤكد القيمون على متحف الفن الحديث ببرلين، وذلك ضمن معرض فني فُتح في وجه الزوار في بدايات شهر أبريل 2019، بل تم اعتبار إميل نولدي بأنه كان “نازيا متحمسا”، إذ إنه، حسب مجموعة من الوثائق تم الكشف عنها، أشاد بوصول هتلر إلى الحكم سنة 1933. يُظهر المعرض مدى التزام هذا الفنان بالإيديولوجيا النازية. وإن أنه رغم هذا التعاطف تجاه فكر الرايخ الثالث العنصري، فأعماله تم تصنيفها من قبل هتلر في خانة “الفن المنحط”، أي تلك الأعمال والتيارات الفنية التي رأى أنها لا تخدم الدعاية والبروبغاندا النازية، ولا تتوافق والفكر النازي، الذي روّج لما سماه بـ”الفن البطولي”. ولأن أعمال إميل نولدي انتمت إلى الفن التعبيري، هو أحد تيارات الفن الحديث، تم رفضها حال صعود النظام النازي، وتدمير لوحات كثيرة لهذا الفنان أو إخفاؤها عن الأنظار. وقد كان هذا الأمر تداعيات كبرى على هذه الأعمال من حيث الترويج إليها بعد سقوط نظام هتلر، واعتبارها نوعا من المقاومة ضده. إلا أنه ومنذ أسابيع، تم الكشف عما يفوق 30 ألف وثيقة تم فحصها من قبل المؤخرين، تبيّن مدى معاداة هذا الرسام إلى السامية واليهود بشكل مطلق. وقد ندد في مراسلات عدة ببعض زملاءه الفنانين، وكتب يشتكي من تأثير اليهود على الفن. هو الأمر عينه الذي يتبناه النظام النازي لمعاداة الفن الحديث. حتى أن إميل نولدي وضع خطة كان ينوي تقديمها إلى أدولف هتلر من أجل “محو اليهود” من بلده. وكما بيّنت الوثائق أنه كانت لدى نولدي العديد من الاتصالات مع النظام النازي: على سبيل المثال، تمت دعوته من قبل الرئيس المستقبلي لجستابو هاينريش هيملر للاحتفال بالذكرى العاشرة لانقلاب ميونيخ في عام 1923.
أضف تعليقك