إفادة الأحد 13 يناير 2019 - 02:21

الشيخات… نساء الأغنية الجريحة

الشيخات لسن مجرد كورال صوتي، ولسن مجرد إيقاعات بدوية، ولسن مجرد أرداف تهتز وأكتاف تختلج، إنهن عمق مغربي بنزعة نسوانية جريحة، لا تجدهن فقط في المناطق التي اشتهرن بالانتماء إليها، “الشاوية ودكالة وعبدة والحوز” بل امتدادهن طويل في السهل والجبل والوادي، وما زلن يحرصن على الغناء الشعبي من التداعي، إنهن يطلقن العنان لحناجرهن لتسريح التباريح والحالات والموضوعات التي حولتهن إلى نساء في قفص الاتهام.
الشيخات مثل خادمات المعبد الغنائي، يقمن بإحياء حفلات كبرى في مناسبات عديدة، ومثلهن مثل الناسكات لا يبحثن عن الثروة، لأنها كامنة في عيوطهن وأحشائهن وأنوثتهن، وفي جرح النساء المغربيات في كل مكان، “سيتادين” تحاول النبش في تاريخهن الضارب في القدم.
شيخات زمان… بيضاوات البشرة مصقولات القوام
 
“مالي يا ربي مالي، مالي من دون الناس، واحد في ملكو هاني، وأنا بايت عساس”. هذه العيطة هي من الغناء المرساوي القديم الذي تغنت به الشيخات المعلمات مثل خربوشة، وفاطمة الزحافة وفاطنة بنت الحسين والشيخة رويدة وبنت الوقيد والزريكة والعرجونية في مجموعة من المناسبات الخاصة والعامة. 
كانت الدنيا تقوم وتقعد لشيخات زمان في كل حفل مهما كبر شأنه أو صغر، ذلك أنهن يملكن مفاتيح وأسرار العيوط التي كانت تفاخر بها القبائل قديما، فكل قبيلة كانت تخرج منها شيخة. 
كانت شيخات زمان بيضاوات ، مصقولات القوام، عيونهن سوداء، وكن محبوبات من قبل الباشوات والقياد والملوك والسلاطين رغم أن الجواري سوداوات البشرة كن أيضا يرقصن ويغنين ويعزفن بمهارة.
منانة وعنابية… الشيختان اليهوديتان

لم تكن المغربيات المسلمات الوحيدات اللواتي يمتهن مهنة الشيخة. فحتى اليهوديات تنافسن على لقب الشيخة ومنهن منانة والعنابية اللتان كانتا تقيمان في المدينة القديمة واشتهرتا سنة 1911 بمجموعة من العيوط المرساوية، إذ كانت ترافقهما امرأة تعزف على الكمنجة وكانتا تحييان الحفلات والأعراس، وذاع صيتهما بين سكان المدينة القديمة من خلال مبادرتهما إلى إحياء حفلات وأعراس الفقراء والمعوزين، ويحكي شيوخ العيطة أن الشيخة راضية التي كانت تعزف على “الكمنجة” نافست الماريشال قيبو، لكن الأخير هزمها بعد أن تمرن على يد مجموعة من المشايخ لعل أكبرهم هو أحمد البربوشي.
 
الشيخات… بين الفن والمقاومة

لا يمكننا أن نتحدث عن الشيخات دون أن ننسى الدور الذي لعبته نساء العيطة بمختلف أنواعها “المرساوي والحصباوي والفيلالي” في مقاومة الاستعمار. فقد كن نساء غيورات على حوزة الوطن، وكن يدافعن باستماتة عن المظلومين، بطولاتهن وجرأتهن في إخفاء ونقل السلاح لا يمكن أن ينكرها أحد. فبمجرد أن تتحدث في مجمع ما عن شيخات زمان حتى يتسابق المجتمعون للحديث عن فضائلهن والاحمرار يعلو وجوههم حبا وإجلالا لهؤلاء النسوة اللواتي بصمن التاريخ بفن راق كان يطرب حتى المستعمر الفرنسي.
الشيخات… بين البحث المغربي والأجنبي 

ناقشت الباحثة الإيطالية ساندرا تشوتشي بجامعة كولومبيا بنيويورك بحثها الأكاديمي “أغاني الشرق وأصوات الاحتشام. العيطة والشيخات المغربيات” استمر البحث السوسيو ثقافي أربع سنوات جمعت خلالها الباحثة إيقاعات العيطة بمختلف أصنافها، كما أجرت لقاءات مطولة مع نجوم هذا الفن بالمغرب، وسجلت سهرات خاصة بالإضافة إلى سهرات مهرجان العيطة بمدينة آسفي، واستفادت من دراسات مغربية حول هذا الموضوع. البحث الأكاديمي أشرف عليه ستيفن بلام، وناقشته الباحثة ماريا أديلايد وكارا بران فانسون، المعروفة بدراستها حول الحمادشة في المغرب، بالإضافة إلى الدنماركية مريام روفسينك أوكسن التي اشتغلت على التراث الأمازيغي المغربي.
يلعب هؤلاء الباحثون الأجانب الذين يقتلهم الشغف لسبر أغوار “عيوطنا” دورا كبيرا للتعريف بتراثنا المغربي الأصيل. لكن المؤلم في الأمر هو أن يهتم عدد كبير من الباحثين الأجانب بتراثنا المغربي في الوقت الذي يهمش الباحثون المغاربة هذا التراث المميز، ونستثني من هؤلاء الدكتور حسن نجمي المهتم بالتراث الشفاهي الشعبي المغربي والباحث الراحل حميد بوحميد وكذلك حسن البحراوي.
بعض الشيخات- أمثال الشيخة عيدة والحامونية- لاحظ أن الأجانب أكثر اهتماما بالعيوط والتراث الشعبي القديم، كما ذكر أن الباحثات الأجنبيات يبادرن بتعلم الرقص الشعبي ويجربن غناء العيوط رغم أنهن يجدن صعوبة كبيرة في تعلمها. وتقارن المعلمات والشيخات المحترفات بين شيخات الأمس وشيخات اليوم فتقول عيدة إن مقطعا من العيطة الحصباوية العبدية “العمالة كواتني وزادت ما بيا، الخاوا الخاوا لغدر عيب، الشعيبية كويس حياتي رفقي بيا بالي أ الخاوا ديني معاك، ولد الرحيحيل عاجبو عوده يا سيدي بالي بيا أ السروت لعبادي ساروا اليوم”، لم تعد موجودة وأنها شوهت من قبل شيخات اليوم وأفرغت من محتواها.  
خديجة البيضاوية… الشيخات المحترفات انقرضن
 
خديجة البيضاوية عملة نادرة من الشيخات اللواتي حافظن على عيوط الزمن الجميل، تقول خديجة إن الشيخة في الماضي كانت ملزمة بحفظ مجموعة كبيرة من العيوط إن لم نقل كلها. تتلمذت خديجة البيضاوية على يد شيخة لم تكن تسمح لها بحمل الطعريجة، إلا حين صارت قادرة على حمل “الوجبة” بأكملها، وتحكي أن شيختها كانت تملأ لها “الطعريجة” بالقطن والمناديل حتى لا تخرج عن الميزان، وقالت إن الشيخات المحترفات انقرضن تقريبا. وتضيف “يمكن القول إن خديجة مركوم هي الشيخة الوحيدة التي مازالت تحفظ العيوط القديمة وتجدد فيها بطريقة تحافظ على عمقها. 
الحامونية… نموذج الشيخة الملتزمة
أعلام العيطة لن يتساقطوا تباعا ما دام من بينهن حتى الآن هرم غنائي اسمه الحامونية. فقد ظلت هذه المرأة الاستثنائية لسنوات ليست بالقصيرة ملفوفة في حجاب اخترعته لنفسها، فالعمر غير العمر، والذوق غير الذوق، والخلف بعيد بسنوات ضوئية عن السلف.
 حين تتذكر الحامونية الماضي، تتذكره برهبة وحب وإجلال، لم تكن العيطة بالنسبة إليها مجرد فسحة، بل كانت سهرا ودموعا واختبارا حقيقيا أمام الناس، وحين يتذكرها عشاقها يضعون الساحوت في جرة العسل ليتذوقوا حلاوة الحصباوي كيف ينبغي أن يكون.
ولدت فاطمة نوك أو الحامونية في أواسط الثلاثينات بمنطقة الحامون في شياظمة، وترعرعت بها. توفيت والدتها لحظة ولادتها، فقاطعها والدها عندما قررت أن تحترف “تمشياخت”. تزوجت الحامونية وطلقت، ثم تزوجت مرة ثانية بالشيخ الجيلالي العياشي الذي أطرها فنيا، فظلت ترافقه في جميع الحفلات والأعراس إلى أن رحل إلى دار البقاء. بعد ذلك اعتزلت الحامونية الغناء وتعيش حاليا في مدينة أسفي رفقة أبنائها وحفدتها. تقول الحامونية إن تمشياخت فن راق خاص بقلة من المغاربة الراقيين، وتضيف أن قيمته الفنية تراجعت إلى الحضيض بسبب تطاول الكثيرين من أشباه الفنانين عليه. موضحة أن شيخات اليوم لا يتقن حتى الإمساك بالطعريجة. 
قيبو… ماريشال المشايخ
لا يمكن أن نتحدث عن الشيخات دون أن نتحدث عن رجل كانت تتهافت عليه الشيخات، إنه المارشال قيبو مايسترو الكمنجة العشائرية، كانت الشيخات يتسابقن ليقسم بكمانجته في سهراتهن، ومنهن الشيخة رويدة وبنت الوقيد والزريكة. كان الماريشال، وهو طفل، يجالس الشيخات اللواتي كن يصففن الوسائد واحدة فوق الأخرى من أجل أن يستوي قيبو في جلسته رفقة كامنجته.
 قيبو حريزي الأصل ولد سنة 1910 وتوفي سنة 1975 . عاش في دروب المدينة القديمة وبوسبير، حياته اتسمت بالبساطة وكان يحب الجلوس في مقهى إكسيلسيور.
جنرالات الاستعمار الفرنسي أنفسهم أغرموا ب”جرة” قيبو الذي أحيا العديد من سهراتهم وحفلاتهم. ويعتبر قيبو الرجل الثاني بعد الماريشال أمزيان الذي نال رتبة الماريشال، منح له الوسام أحد كبار المسؤولين الفرنسيين خلال الأربعينات بعد أن أعجب بتقاسيم جرته، إذ نزع قبعته ووضعها على رأسه قائلا “أنت الماريشال”. ومن ذلك اليوم أصبح الكل يناديه بالماريشال قيبو.
بوشعيب البيضاوي… شيخ المرساوي
بوشعيب البيضاوي واحد من المشايخ الذي تميزوا في هذا اللون الفني الذي يسير بخطى سريعة نحو الانقراض. اسمه الحقيقي بوشعيب الزبير. كان يكتب العيوط باللغة الفرنسية، لعب الراحل دورا كبيرا في تطوير العيطة البيضاوية رفقة مجموعة من المشايخ. 
ويعتبر بوشعيب البيضاوي الفنان الوحيد الذي نقلت مراسيم جنازته على شاشة التلفزيون بعد أن أرسل الملك الحسن بعثة خاصة من القصر يترأسها أحمد بن سودة، مدير الإذاعة والتلفزيون آنذاك، إذ ألقى كلمة تأبينية أمام نعش الراحل بمقبرة الشهداء، كما تنقلت بعثة مكونة من كبار مهندسي الصوت الأجانب، أرسلتها “باتي ماركوني” الفرنسية التي كانت مشهورة آنذاك وسجلت 12 قطعة كان أداها المرحوم بوشعيب البيضاوي ما تزال نظيفة. 
شيخات الإثارة والإغراء
شيخات اليوم مرتبطات بظاهرة “سي دي و”دي في دي” التي غزت أسواق المغرب. فلا يخلو سوق شعبي من آلاف الأقراص المدمجة التي تظهر هذه الشيخة منبطحة على ظهرها وأخرى ترقص فوقها، وأخرى تشير بشعرها وردفيها وصدرها في حركات لها إيحاءات جنسية فاضحة، أما أصواتهن فضعيفة وتتخللها حشرجة. 
صحيح أن شيخات الأقراص المدمجة جميلات ويتمتعن بقامات طويلة، لكن بينهن وبين شيخات الأمس مسافة تقدر بأميال. ولعل الصفات القدحية المرتبطة اليوم بلقب الشيخة أكبر دليل على هبوط مستوى العيوط التي يغنينها. 

التعاليق

المزيد من بورتريهات

تلفزيون الموقع

تابع إفادة على:

تحميل التطبيق