إذا اقتربت من ضحكته البيضاء، لا بد أن تصيبك عدوى المرح. لا جثث تحت معطفه ولا مقابر، لا حزمة حطب ولا خراطيم مياه. وحدها المفارقات تعصف برأسه وتجعله، في كل الأوقات، أقرب إلى عابر موانئ منه إلى صياد لحوم ورغبات. يضحك دون فاصل، ومع كل ضحكة يختبئ في آلامه البعيدة، يدثرها بمزيج ملون من السعال والمطر، ثم بغتة يبتلع وردة العالم ويمضي إلى حال هوائه. في كل ميناء، وعلى وسادة واحدة، كان ينام مع امرأة لا يراها سواه. أحيانا يليفها بالشمع المذاب، وأحيانا بالرخام السائل.. وبين هذا الفتك وذاك الافتراس، ظل يراها بلا قبعة ولا سراديب ولا أحلام. كانت المرأة لا تبكي لأنها تعرف أنه ليس مسلمة، وأنه ليس متصالحا مع المتاريس، وأنه أمامها يتحول إلى طفل يتهجى أسماءها ليغسل ظلمة روحه. وكان لا يبكي (لم أره يبكي أبدا) لأنه استقر بين مساحتين وجعل كل شيء قابلاً للنقاش: الله والملائكة والشياطين والتراب والألم والدم والعدم والتراب والأوقات والماء القديم.. كان مثل قديس ملعون يتباهى بشكه العالي. وكان الشك، دوما، في لمعة عينيه، ملحمة ينكأ في تجاويفها سعادته. من أين أتاه ذلك الامتقاع المبرقش الأبيض؟! هل انفجر حوله السر وانكشف الحجاب ورقص الحظ وانمحت خطوط الضياع؟! يبدو لهم شخصاً بلا مشاكل أو قصص معقدة. خفيفا كظل، ولامعا كضوء، وبسيطا كماء (هل الماء بسيط؟)، ودافئا كغرفة المعيشة. حين يفرج عن ابتسامة معتذرة، لا يفعل ذلك لأنه يسعى لإطفاء زمجرات مكعبات الثلج وارتجاف الحاقدين، فهو يقفز بإذعان لحواسه، كأن الآخرين غير موجودين، أو كأنهم على رصيف القيامة يتدافعون بلا وجوه أو أقنعة، كأنهم يمتزجون برائحة الطين والقطران والملح والكبريت. يبدو لهم رجلا لا ينام في الغمام لأنه يتوفر على ثروة لا تضاهى من الحظ. ولكن مخلب الخوف كان قد ضرب قلبه بوحشية، قبل ثلاثين عاما، حين آمن أن «رأس المال» ثورة مندلعة بلا توقّف. هو في العمق ليس رجل ظلمات (لمن يعرفه جيدا)، ولا يجيد أبدا الحراك في الطمأنينة. لا يعيش بين الهزائم، ولا يتكلم أبدا بفم مفتوح على مصراعيه. يبدو لهم جسدا مؤتزرا بالهواء، يلاحق بلا هوادة ظلالا تعقد بإحكام ياقات معاطفها، هناك في أحلام متسكع بلا مجد، أو في صرخة مسدس كاتم للصوت. هو لا يحب الأماكن الرمادية، ولذلك لا يدخل المقاهي أبدا. المقهى تدرج في الألوان، والحانة امرأة زنجية لا تتذكر إلا الخونة أوالحشاشين أو المدمنين أوالشرفاء أوالحالمين. المقهى وقت منضد، والحانة لعبة نسيان بين الأسياد والعبيد والأقدام الحجرية. لم يتعلم لينجو من الفضيحة، أو ليغادر معارك اللغة أو ليشاكس ملاءة الفن وطبقاته، ولا ليضاهي الصراخ الذي لا يندمل. تعلم ليقسو على الاختزال والسطحية. أحب فلسفة نيتشه كمكان طبيعي له، وأقام بين جدرانها بيتا للخديعة. لم يقل الشعر في الأصنام، بل قاله في ذلك التمازج الداعر بين مخلوقات رودان وراهبات المعابد القديمة. وقبل هذا وذاك، كان يدمن عادة الاغتسال بماء المطر في ليالي الشتاء، لأن صديقه نيتشه يذكره دائما بأن خلاص البشرية يكمن في إبعاد التنانين والتماسيح وأصناف الثعابين وقراءة الكف والصحف المنزلة والعين والترهل.. وفي محبة النساء والروايات والدمى! ولأن بوجمعة أشفري ذئب براري محترف وأنيابه دم زعاف لمن يتربص باختلافه، ولأنه غير ميال للحروب البقرية الصغيرة ولا يحب دخول معارك الركام ولا يصر، مثل تيس، على الاستفراد بامرأة مترهلة تنام على مصطبة باردة، كان يتأفف من كثرة الطارئين، من مغارب الأرض ومشارقها، على طاولة طعامه التي تجمع بين نيتشه ورامبو ودوستويفسكي وفرويد وهرمان هيسه وابن عربي والنفري. هؤلاء هم أصدقاؤه الأثيرون. هؤلاء هم المطرقة التي أطاحت بكل الجدران. هؤلاء هم ما بقي من خمرته التي تنتشر كأفعى الماء تحت جلده.. هؤلاء أصدقائي الملاعين ترَاهم ههنا مبتسمين ومحتشدين بوسامتهم وقاماتهم الفارعة.. هم الذين حملتُ من أجلِهم الضَّحِكات العالية فامتلأتْ صدورُهم بالعنب والمطر والنساءِ هؤلاء أصدقائي الملاعين هم الذين لم تصلْني رسائلُهم خطوة خطوة ولما شممت رائحة غربانهم تبعتهم إلى مدخل الصحراء هؤلاء أوطاني غير المعلبة عندما تأكلني الذئبة وتشردني الجوازات الخرساء مع أصدقائه، كان يرتب النساء ويفك أزرارهن وأسرارهن، ويفتل بالشعر والتأمل عطرهن الطافح. وحين تعانده الجملة أو تفر منه الكلمة وتقفز على نهديها، يضحك عليها بخيلاء ويحولها إلى امرأة معروفة شاهدها في فيلم روماني قديم، كأن يجعلها غانية زنجية في سرير الحاكم بأمر الله، أو قينة ظريفة في بلاط صانع القنبلة الذرية، أو مومسا مسنة تذرع شارع الخلفاء الراشدين بلا طائل، أو مغنية معتزلة تدمن المجد في حانة «مدام غيران». لا يستطيع الفكاك من لجة بألف نهد وسؤال، وحين يثمل ينقشع العالم ويخرج الذئب بعد يوم طويل من الجوع.. مع أصدقائه هؤلاء، لا يعاني من أي نوع من الاحتلال. لا حدود لانتماءاته وأراضيه. لذلك تغيب من قاموسه مفردات الغربة ومرادفاتها.. كأنه ولد هنا وهناك، أو كأن الأقدام في أرض خيالاته مجرد أجنحة مفرودة في سماء تصطاد الغزلان والوعول وصناديق القمامة أو زجاجات البارفان. حين يختلي إليهم يصبح حقيقيا ومتمددا، وعلى الرصيف المقابل لماضيه الجامعي تنام سلوى وبشرى ومنى وكريمة وعائشة… ها هو في مقصف الطلبة، لا يزال بينهن هناك مستيقظا. يضحك ويمنح الدرجة التامة لبشرى ويرممها (عن عمد!) بامرأة أخرى تتدحرج بين يديه، كأن عمراً من اللهاث لم يبعده عنها، كأن ذلك الكتاب الذي نسيه في مخدع الهاتف مازال مفتوحا. وهي، في كهرباء براءته، تغفو كحارس مشرحة في برد سريره، تركض ولا تسترخي على صفيح مشاعره. يحرضها كرفيق طريق على أجمل احتلال، ولكن لأنها أكثر لطفا من مهاراته الطائفية ولأنها لا تدعي أنها تملك النصاب القانوني لإطفاء انقلاباته، تتركه وحده مع مطر خبيث يفخخ انفعالاته. ها هو يقطع الطريق إليها، جيئة وذهابا، ليقص عليها حكاية أسلافه الممسوسين وأسفارهم في مدارج الأرض الرقطاء؛ وها هي حيث تركض إلى الباب بتثاقل لتحرض فيه العقل والجنون والفوضى وسحر الغرب، امرأة فلوبيرية تترحم عليه وتدعو له بالجحيم كأنها تتلو موجز أنباء الأرض؛ وها هو كالواقف أمام عاصفة يقتفي الركض وينصرع وينخطف ويشحب ويضمحل.. منذ ذلك الحين، بات يخرج من أصدقائه ليدخل عينيها. وشيئا فشيئا بدأ يكتشف، في انفلاتها العريض، تدرج اللون وزحف الظل وإغفاءة الأضواء. نسي أن أرنب الغابة السوداء ينام في أدراج التلميذات المراهقات، ونسي أن نيتشه ليس مجرد حصان، ونسي أن الفن ليس ملاسنة أبدية بين الوهم والحلم، ونسي أن أصدقاءه الأثيرين دللوا أجسادهم كثيرا، وأنهم أثرياء بأشكالهم وأحاديثهم ومروقهم. نسي كل ذلك ليترهبن ويتحرك في المسافة الفاصلة بين الإيمان والإلحاد، وإلا لما تساءل: «هل الحياة مفتوحة من الجهة الأخرى»؟ نسي أن ألعاب الصحراء ناقصة، وأن الأثر وهم الرمال.. وحين اعتقدوا أنه نسي كل ذلك، رقص كما لم يرقص زوربا اليوناني! لم ينس بوجمعة أنه فعلا رسالة حب لا تميز بين الصخرة والموسيقى والجامع والقلب والكنيسة والفن والألم. فكلما صادفته ماشيا في شوارع عرقه، صباحا أو مساء، أيقنت أن ليس في ذهنه، تقريبا، إلا قطعة قماش ملطخة ببادرة حنان، أو حرفا خائفا يبحث عن موطئ جناح، أو امرأة بفصوص وعناقيد ومغارات. آنذاك، اتركه يعمل، لا توقظه واتركه ينتشر في ظلاله المجوفة والعميقة.. شراهته كشاعر علمته أن يمشي دائما على تراب مبلل. لا يتحرج من شيء، وفي رأسه قمم وسفوح ومد أزرق. لا يكتب ليطرب ويثير الإعجاب أو يضاجع، ولا يكتب كمدفع أو دبابة أو ميراج، ولا يكتب ليحرر مدينة، ولا كما يحلو له أيضا. يكتب لأنه مرغم على منادمة الزلزال، وعلى أن يقول ما لا ينقال.. ترى لماذا يتجمع كغيوم الأعالي، ويتهلل كدمع المسيح، ليخون على وساداتٍ غريبه مخاوفه الهائلة؟ لم يتزوج، ولا يأبه، وما ينبغي له. وحين تسأله يقول لك إن امرأة واحدة لا تكفيه، وحين تبحث في جمجمته، بعد هذا العمر، تعثر على مجزرة نساء غير منطفئات تماما، وحين تلح عليه لا يتذكر قصاب «المسرح الجامعي» من السقط إلا تلك الأمازيغية التي تركت «وحيد القرن» بين رمحين، والصحراوية التي ملأت بالعشب والسحاب وجهه، وتلك الفرنسية التي لا ترتخي إلا في الهواء الطلق، والروسية والبلغارية والنيجيرية، وبنت الشام وذات القميص الوردي.. وهاتيك الفتيات المستئذبات اللواتي يلوحن له من شرفة فندق الدار البيضاء! في مدينة الدار البيضاء، لا يحلم بوجمعة إلا بأثداء محتقنة، وأقسى طموحه هو أن يدفن حزنه في كأس، أو أن يعقد معاهدات مع الأرداف. هذا هو المسدس المحشو الذي يدافع به عن نفسه، وتلك هي جدرانه المغلقة التي يمتطي بينها حلمه في أن يسمو ويمتزج ويتفاعل؛ فقد أدرك بوجمعة، منذ وقت طويل أن قلب الشاعر يشبه رفرفة نسر بين أقدام، وأن التنفس الاصطناعي لا يليق أبدا بمن أدرك مرتفعاته الانسانية، وأن ليس مهما أن تكون في الوطن الجريح غرابا أو تيسا أو أرنبا أو مجاعة.
الشاعر والباحث بوجمعة أشفري قديس يتباهى بشكه العالي
الخميس 26 أكتوبر 10:10
8828
أضف تعليقك