الروخ: زوربا المغربي الذي يرقص على أكتاف “الأكروبوليس”
ليس من اليسير أن تلتقيه، الآن، إلا كما ترنو إلى غيمة ضاحكة تعبر فوق رأسك على مهل؛ كان، في ما مضى، ونحن جالسان في ذلك المقهى الداكن بشارع الحريزي بالدار البيضاء يتكلم بطلاقة ووضوح، تماما كهؤلاء الذين يحملون هوية غير مقموعة بالإيديولوجيات. يتكلم في كل شيء (الشيء هنا هو تلك المدارج التي اجتازها بمشقة في الدروب والحارات)، لأنه عرف كيف يحمل نفسه، وكيف يعبر بها بنجاح نحو الضوء.
إدريس الروخ، “إيكاروس” الذي لا يستطيع أن ينتظر النهار ليذهب نحو الشمس. ابن الحارة الصاخبة التي عرفت كيف تجعله على خصام دائم مع “السهل”، ومع الانغلاق الذي يحرص البعض برشاقة الجنادب على حفر آباره الشاهقة. لا يقدم تنازلات ليبلغ رسالته، ويشبه جدا ملحمة المكان الذي أنجبه.. ملحمة “الماء الحلو” الذي أغرق أرواح شهداء بوفكران.. يمكنك أن تقرأ ذلك في عينيه حينما يتحولان إلى نشيد ينزلق بضراوة من القلب.
إدريس الروخ، مدمن أفلام.. لا يلتصق بشبر الأرض التي تحت قدميه ليكون شاهد عصره، بل يلغي كل المساحات والأبعاد ليطير نحو كل الثقافات.. لا يستقبل الصور التي يستهلكها كهجوم عسكري مفاجئ، بل كأسماك عالقة بشبكة صيَّاد.. قد يعود بها كغنيمة اليوم إلى البيت، وقد يتركها تعود بكياسة وإحسان إلى الماء. معا كنا نلجأ إلى “الأفلام المقرصنة”.. أفلام الكبار الذين يقودوننا إلى الحجارة التي نصبتها الآلهة على أكتاف “الأكروبوليس”.. الأفلام التي تخترق الأزمنة.. أفلام الثراء الفني والجمالي والبلاغي.. أفلام كوروساوا وفيلليني وطورناطوري وبيتر فير وألان باركر.. أفلام كنا نتجنب بالكثير من الشراسة ألا نشاهدها. كانت نبرتها البسيطة تقودنا إلى الفعل الشعري الخلاق. أفلام كالقصائد التي تفلت من ثوب الصباح، ندية وطاجة وبكثير من الإشارات الإنسانية التي بإمكانها أن تقبض على قلبك في كل لحظة.
إدريس الروخ، حين يتكلم عن عشقه للسينما يستيقظ كل الموتى الممددون بارتياح في ذاكرته.. يستيقظ اللذيذ ماسترونياني.. ويبدأ الرائع أنطوني كوين في الرقص على طريقة زوربا..
الروخ هو زوربا.. وزوربا هو الروخ.. اليدان مفرودتان مثل لقلاق، والرأس منغرس في كتاب الموسيقى الذي تعزفه الروح بمفردها، وفي ذروة انعزالها.. فتمضي إليه كل الأشياء لتشاركه الرقص.. كل الممثلين الشاهقين يصطفون أمامه، يتمايلون ويتخاصرُون ويحرضون بعضهم البعض من أجل إطلاق القهقهات في الأبدية التي تتثاءب في تاريخهم.
إدريس الروخ، لم يأت إلى التمثيل من اللامكان. ركل الكرة بمتعة فائقة في كل مساحة متربة بـ “ديور الجداد بن محمد” بمدينة مكناس. لاحقها بجدية، وتفنن في المراوغات، واستطاع أن يمتلئ باللياقة البدنية والأخلاقية اللازمة للالتحاق بالنادي المكناسي، إلا أن كسرا في القدم، سينهي حلمه في أن يلعب جنبا إلى جنب مع عزيز الدايدي ومصطفى بيدان وجمال الدريدب..
ولأن الأرض لا تميد بهكذا أزمات عارضة، عَضَّ الروخ على يتمه بقوة (كان في سن السادسة لما توفي أبوه)، وكان أشقاؤه الستة (كل من زاويته) يضمدون جراح منتصف السبعينات بغير قليل من الصبر. آنذاك ظل ملتصق بحلمه في أن يكون؛ وكي يخرج من الفخاخ التي كان ينصبها بدأب ذلك الزمن الصعب، كان يلزم أن يصادق الكتاب بدل القدم، وأن يفترع كل المعاني التي يطرحها مزاج “الحلاقي” و”الجوطيات” وتغريد “الجوش” و”موقنين” و”كوبارة” و”السمَّان”. كان لا بد من الانفتاح على الفضاء الرحب الذي تملؤه الكتب وقصص “عطية الأبراشي”: راعية الإوز، الجندي المجهول، الأقزام السبعة، الحزام السحري، الصندوق الزجاجي.. إلخ. وفي الضفة المقابلة من لغات الجيل، كان يدعو نفسه إلى التهام قصص “زامبلا”، “أمبراكس” و”بليك لوغوك”، “كابتن ميكي”، “كابتن سوينغ”، “روديو”، “بوما نوار”، “سترانج”، أكيم”، “راهان”.. والقائمة طويلة.
في تلك المرحلة، كثيرا ما كان يختلي بنفسه ليرحل نحو حياة أخرى.. يدرس بإلحاح، ويحلم بإلحاح أكبر، ويتفرج على نحو شره. أَحَبَّ السينما والمسرح والموسيقى.. وأحبَّ دراسته، وتسلق الأقسام بدربة الغزلان. يقول الروخ:
“درست في مجموعة من المدارس، وتعلمت على يد مجموعة من الأساتذة الأجلاء. نشطت في سن مبكرة في عدة جمعيات ثقافية وفنية. ولعل ذلك ما ساعدني على دخول مجال الفن والمسرح من جميع أبوابه. ومن هنا برزت بعض مميزات شخصيتي، سواء الشخصية أو الفنية التي بدأت مسيرتها بالدراسة بالمعهد العالي للفنون المسرحية والتنشيط الثقافي سنة 1990، وهي المرحلة التي أعتبرها طريقا للنجومية، حيث فتح لي المعهد مجالا أوسع للبحث والتعمق أكثر في ميدان المسرح والسينما والتلفزيون”.
لم تكن الطريق معبدة بالورد والندى. بل أحيانا بآلام المسيح.. فإثبات القدم أمام البلدوزورات يستحق شجاعة المقاتلين بتذكرة ذهاب دون عودة. ولم يبتسم الحظ إلا سنة 1993، حين اقترح عليه الملحن الموسيقي المغربي أحمد صيَّاد دورا في أوبرا “قلادة الحيل” و بهذا الدور سافر إلى فرنسا وحصل على منحة للدراسة بالكونسيرفاتوار الباريسي بين سنتي 1995 و1996. وهناك، انفتحت له أبواب الاحتكاك مع الكعوب العالية في السينما والمسرح.. حيث انتهى إلى التعامل مع المخرج الأمريكي “فيليب راك” في فيلم “الوضعية” والمخرج المكسيكي “ألخاندرو غونزالس” في “بابل” مع النجم العالمي “براد بيت”، ثم مع المخرج “بيتر فيليب” في “جنود الكهف”، والمخرج “بول غرين غلاس” في “غرين زون” ، كما شارك في أعمال سينمائية أخرى مع مخرجين فرنسيين ودنمركيين وسويديين.
ولأنه من هذه الأرض، ومن تلك الأسوار التي تترجم انتماءه العميق لبلاده، فضل الروخ دائما أن يغمر “الغيس” حذاءه للمساهمة في تطوير المجال الفني، بكل ما يملك من خبرة ودراية. يساعد هذا المخرج، ويساهم في ترميم هذا السيناريو، ويقترح هذا الممثل، بل أحيانا يقف وراء الكاميرا ليساهم (مجانا) في إخراج مشهد مستعصٍ.
شارك في أفلام مختلفة أدارها مخرجون متميزون، أمثال حسن بنجلون، محمد اسماعيل، نور الدين الخماري.. وفي أفلام ومسلسلات تلفزيونية، وأخرج مسرحيات وسيتكومات، وما زال يمثل في أفلام لمخرجين عالميين.. لكن حلمه ظل هو أن يشخص أدوارا لشخصيات أثرت سليا وإيجابا في تاريخ المغرب، مثل أوفقير، الدليمي، عدي أوبيهي، علال الفاسي، الروكي.. إلخ. يقول:
“بعض شخصيات التاريخ برغم كونها سلبية فقوتها الدرامية من جهة تعطيك مادة سينمائية بامتياز، ومن جهة أخرى يجب أن تقدم للناس لمعرفة حقائق تلك الفترة”.
هذا هو حلمه السينمائي الذي يعتبره رحم كل انطلاقة للتصالح مع الهوية والتاريخ والتخييل غير المأمون، أما حلمه الآخر.. فهو كاميليا (ابنته)، الزهرة التي تنغمس الروح في بتلاتها.. هي سرعة الدفق وكنز كل الكلمات. هي الموسيقى الصامتة بين السماء والأرض. هي نهاية المراثي كلها. هي حارس هذا العالم الذي يسير إليه.. هي هذا الحب المتخم بتجارب السنين..