الذات وخطاب التعدد
محمد صولة
….وأنا أقرأ محكيات الصديق الشاعر جواد المومني الذاتية٬ تذكرت نصوصا قرأتها وصيرتني إلى قارئ من طينة أخرى، إنها نصوص ساحرة وعجيبة ومشاكسة، تتوزع بين السرد والشعر، كما عدت إلى بعض ما في ذاكرتي علني أجد من خلاله مخرجا أومدخلا، لكني استحضرت لGerald prince قولة قريبة إلي أرددها دائما عندما أقرأ نصا مبهرا وباذخا، يقول :” أن نميز بين القارئ الواقعي الفعلي أي القارئ الحقيقي لنص أدبي، والقارئ الواقعي الفرضي، أي القارئ المستهدف. لكن غير المدرك ،لأن كل مؤلف إذا كان يحكي لشخص آخر غير نفسه، يؤلف ما يحكيه تبعا لنوع خاص من القراء، يهب له أوصافا وقدرات وميولات، وتبعا لرأيه من الناس عامة أوخاصة٬ وتبعا للالتزامات التي يتعين عليه احترامها،وغالبا ما يكون هذا القارئ مختلفا عن القارئ الحقيقي:فما أكثر الكتاب الذين يتوفرون على جمهور لا يستحقونه. ” (1)
فبين أزمة القراءة وما ينخر المجتمع من جهل وأمية وخذلان، أمام كل هذا ماذا عساي أن أقولˁ وبعبارة أخرى فإن” جويس” joyce “في إنتاجه الخاص الذي يعتبر كاتبا لنص مفتوح حين يسمح لنا بالكلام عنه يبني قارئه الخاص من خلال استراتيجية نصية، ويصبح النص غير مقروء إذا كان النص يحيل على قراء لا يفترضهم ولايساهم في إنتاجهم أو يصبح هذا النص كتابا آخر. ” (2)
وأنا أحاول أن أقرأ نصوص “ذوات يمتطيها الظل ” (نسيج المرار) وجدتني مشدودا إلى الاستعمال والتأويل، “الاستعمال الحر للنص الذي يعتبر استمرارا للتخيل وبين التأويل للنص المفتوح ” لتحقق نص المتعة بتعبير رولان بارت.
هكذا إذن اخترت نوع القراءة، وحرصت على أن تكون محاذية للنص أكثر ما تستغوره، لأن ذلك يتطلب تأنيا وتدبرا.
بدءا بالعنوان / العتبة الذي يلقي بذوات نكرات يمتطيها أخطبوط الهلاك، لأن لفظة “الضل” هي ضد الهدى أي الباطل والهلاك عند العرب، وأنا أحببت أن تتقصد الهلاك، فهل ما تبقى مما تتركه رحلة الكاتب في محكياته الذاتية بالإيجابي، يطالعنا عنوان فرعي هو(نسيج المرار) والمُرار شجر يعرف عند العامة بالمُرَّيْر إذا أكلته الإبل قلصت مشافرها فبدت أسنانها، إنها نسيجةنصية تستدعي البحث عن صورة لنص مفتوح تجاوبا مع ما هو في باطن المؤلف، تبعا لعبارة فاليري valery”ليس هناك معنى صحيح للنص “( 3 ) وبما أن القراءة تستدعي التأويل فإن بنية العنوان المركزية والفرعية تثير مزيدا من الانزياح فإنها على المستوى السيميائي تخضع إلى تمظهرات تثمينية محفزة على الفعل بحيث إن كل مسارات النصوص تتميز باستحضار عناصر لها وظائف لايمكن استعمالها إلا في سياق التأويلية للنص المفتوح، إذ أن هذه النسيجة تخرق بنية الاستهلال، وتعلن عن صورة لأفق متغير على مستوى الشكل بين السردي والشعري ؛ والمضمون بما يحمله النص من رسائل وفق خطابات تتعدى المألوف والمباشر. فهل يمكن القول إن رهان العنوان أصلا هو بالأساس يحمل قيمة تمييزية بخصوص اقتضاءات الشكل أوما يسميه ” بروب” بالقيمة المتغيرة؟ (4 )؛ هذا ما نلحظه من خلال بقية العناوين داخل المؤلف، باعتبارها عتبات مفتوحة على حيوات مروية تمنح للذات أهليتها لتحقيق الرغبة والقدرة على التجاوز.
النص السير ذاتي وخطاب الذات الواعية
يسترسل السارد في سرد الأحداث تباعا دون أن يترقب تدخل عنصر آخر، فالنص الذي يغرق في الحكي الذاتي ،هو شبه بوح بالصوت المرفوع، لكنه معبر يترصد كل الحالات والوضعيات والعناصر التي تستند إلى الذات وتدفعها إلى قبول المغامرة ، بحيث ليس هناك مضمر بل ما يجعل النص بابا مفتوحا على عالم المؤلف هو الكتابة الطقوسية التي تجمع بين الشعور والفيض ، بين الألم والفرح بين التجربة / الذات والواقع / المختبر، ” بين حرف وآخر ثمة كتابة وبين كتابة وأخرى ثمة ما يختلج، إنْ ألما أوفرحا، والذات بين هذا وذاك مسرح للتجارب . ” (5 )
إن احتفاء السارد بذاته هوانتماء لجغرافية مكانية لاتبرح صوغا ذاتيا نوعيا، لهذا نلاحظ أن اللغة السردية لا تغادر الحيز إلا لماما، إذ أن “صيغة التلفظ ” mode d’enonciationهي التي تقصي كل شكل لغوي “سير ذاتي”. فالمؤرخ لن يقول أبدا لا “أنا” ولا”أنت” ،ولن يقول أبدا “الآن” ذلك أنه لن يستعير أبدا العقدة الشكلية للخطاب وهي العقدة التي تقوم أساسا وقبل كل شيء على علاقة ضميري “أنا” و”أنت”، ولن نجد إذن داخل المحكي التاريخي المتلاحق بشكل مضبوط سوى أشكال مسند ة إلى ضمير الغائب (6 ).
هكذا يبدأ السارد ب :” يُؤْويكَ ” للمخاطب، ويستحضر فيه أثر محمود درويش والأرض التي تتعلق بالتعب والهلاك، ثم يعود إلى البداية “كيف لك أن تستريح؟ كيف لك أن تطير؟ أن تحط؟ أن تحب؟ … هذه أراض لأهلها، لمالكيها، لملاكها، لهم، لهم أرضهم، ولك أرضك، فلاتك … ظلالك … ضلالك” (7 ) ويمكن أن نشير إلى أن أغلب النصوص هي أصلا تتجاوز هذه الصيغة الأسلوبية بل تردم خرقها لها، وتستبدلها، كما أسلفنا باحتفاء مكاني، مثلا الكانيكو، بييربينيان، مارسيي، مونبولي، النيم، ديجون، سويسرة، بحيرة ليمان، لوزان، ساحة كاساني، نهر الباس، أو وادي لاكلي، القلعة الكطلانية، مأوى الطالب…، هذه الأمكنة تستسلم لسلطة السرد، حيث تحركها شخوص مفعمة بالحب والحيرة والتيه والمتعة : محمود درويش، قاسم، الكاملة، لحسن، الكوخو، رضوان، أمال، هشام، الناصر عبد الرحمان الأموي، عبد القادر، إدريس، مومو أو محمد الكردي ، إيزابيل، كيوم أبولينير، و آخرون….
إن هذه الأصوات التي تتقاطع فيما بينها على مستوى وحدة الحدث والزمان والمكان، وكأنها تبني سينوغرافيا لمشهد درامي تتوزع فيه العناصر الممسرحة، لتخلق لنا فضاء خصيبا بالعلامات والرموز، لكن يبقى كل شيء في نظر الكاتب وهو يتدخل في السرد، مستعصيا ، يقول: ” أن تخلق عالمك، أمر صعب ! أن تعيد إنشاء فوضى المتاهات في ذا الكون ؛ شيء سيٌّ .” ( 8 )
وكما أن استحضار المكان تمثل من خلاله السارد/ المؤلف سلطة زمنية تعاقبية حينا ومستقطعة حينا آخر، فإن ذلك جعله يرهنه بالتذكر والتفكير والأحلام، إذ أن هيمنة متخيل المكان، هو بالضرورة استعادة لكثافة الألفة والتمركز “وقد يبدو المكان حيزا له كيان مكتمل، له حدود واقعية من وجهة نظر قاطنيه ، لكن هذه الحدود يمكن عبورها باستمرار، لأن الأمكنة تنتقل معنا وفينا خارج حدودها .
إننا نمتلك تصورا ثقافيا قبليا عن وجود أمكنة أخرى في العالم قد نتمكن من رؤيتها وقد لا نتمكن، فهي تتقاطع في تصورنا مع المكان المعروف. وقد ينتقل المكان من مستوى المجاز إلى المستوى المرئي حيث نذهب أو نضطر للذهاب إليه. ” (9 ) إنها رحلة خلاص في مكان لا ينتهي، يعبره هو أو غيره دون أن يحس بضيق، ” باتت (ديجون) على مرمى بصر وهو يمتطي قطار (التي .جي. في) مذهل السرعة ؛أصبحت مقاهيها ومآثرها ومتاحفها ومباهجها معرضا يوميا، مفتوحا أمامه ” (10 ) ، ” وقد يفقد المكان إحالته المفتوحة، ويصبح فضاء معكوسا “….المدينة عبء واضح مفضوح…” (11 )، ومع ذلك يبقى المكان خاضعا إلى إحساس ذاتي بالحرمان والحميمية والحنين والضجر، هذا التعدد المتناقض هو ما يجعله تارة مدمرا وتارة بناء، ” فالمكان في مقصوراته المغلقة التي يحصرها،يحتوي على الزمن مكتفا، هذه هي وظيفة المكان ” (12 ) ، هكذا إذن يتحول المكان من ألفته الواقعية إلى مجازات تتجاور فيها الصور الإنسانية في سلبيتها و إيجابيتها.
الأسماء ومرجعية التعدد
للإسم دلالة ما يحملها في النص، وهو أسير الدوال، إيحاءاته تربوية، واجتماعية ورمزية ” (13 )، بتعبير رولان بارت، إذ أن الدلالة المرجعية للإسم تخرج من توصيف العلامة إلى استعارة الرمزية لتنتهك بذلك الصورة الثقافية النمطية وتستبدلها بخرق مجازي يعيد للإسم سلطته المرجعية غير المعلنة، إن انتماء هذه الأسماء لجغرافية تعددية، وحركيتها في فضاء هجين، يدفعنا إلى إعادة قراءة تمثلات الأنا والآخر، باعتبار أن استحضار الهوية ، والثقافة والعرق والجنس …إلخ. كل هذه العناصر نستطيع من خلالها الوقوف على متعة الترحال والتيه والحلم، لقد أمكن لبروست Proust أن يقرأ سبورة أوقات القطار ليجد في منطقة الفالواle Valois الأصداء الناعمة والمتناهية لسفر نفرالNevral بحثا عن سلفي sylvis، ولم يكن القصد هو تأويل أوقات القطار، إنه واحد من استعمالاته المشروعة وكأنها أحلام يقظة. أما بالنسبة لأوقات القطار فلا تتوقع إلا نمطا واحدا من القارئ النموذجي هو المستعمل الديكارتي ذو الحس الحاد بعدم قلب التتابعات الزمنية (14 )، إذ لا يمكننا في نصوص ” ذوات يمتطيها الضل ” أن نقرأ استثمار الأسماء من خلال مرجعيتها الواقعية، بل هي حالات لوضعيات تتشعب فيها المعاني الذاتية والموضوعية.
يبدو جليا أن هذه “الذات”في المؤلَّف؛استطاعت أن تنفتح على سيميائيات الفعل من خلال الإنجاز والأهلية، فهذه الرحلة التي قام بها السارد لإنجاز مهمة داخل الحكاية، إذ يعتبر هذا إنجازا أو فعلا امتلك موضوع قيمة ليحصل على نتيجة متضمنة في ملفوظ الحالة، وهذه “الذات” أيضا لا يمكنها أن تقوم بانجازما، إذا لم تكن لها مؤهلات، فخارج القيود يتحقق الإنجاز وبواسطة أهلية الذات ورغبتها في ما يدفع للوجود.
إن السارد وهو يستدعي أسماء لازمة ومتعدية، بصيغة نحوية يدفع بمسار الحكي إلى أقصاه بمعنى أنه لا يقف عند حدود المواضعات اللسانية للإسمولعلميته، بل ينتقل به إلى نسق مرجعي لتمثل منجز لفعل تأويلي دائم : ” عاد إذا، وكان المساء مبتلا، السماء باكية وحنينه إلى الدمع اشتد. ما شعر به لحظتها، صرحت به عيناه، لعله بؤس فلسفته! أو هو كذلك؟ لعله الشوق، أو هو نفسه، ليكن ،فما كان الحب عيبا، ولا كانت رفرفة قلبه التواق أمرا شائنا، حنين الطير إلى وكره، نار أبدا مشتعلة بقدر ما تزيد أو أكثر، الزهر في شوقه إلى الندى؛ والأرض بقطر السماء تعشق، والنهر لصبيب الجبل يهفو، هو كذلك، هو كذلك … ” (15 )
إنه التعدد الذي يرمي به السارد مسروده كائنا صفة أو فعلا : ” لكنه يبقى في الأخير إنسانا، فهل أدرك حقيقته؟ هل يتحجر عناده أم سيركب أمواج الخيال؟ ” ( 16 ) هو مجرد استعادة لصور رمزية، تحتفي بأسماء الأماكن والآدميين: فرانسوا أراكو، الماريشال جوفر، فرانسوا مارسو، جان جوريس، بول ريكي، جوزيف كاساني، سان جاك، الشيخ إمام، أحمد قعبور، فؤاد نجم، مارسيل خليفة، سعيد المغربي، شي غيفارا، محمود درويش، مظفر النواب، الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، الأواكس،HLM Vernet Salanque، ساركوزي، كيوم أبولينير… فما يجمع بين هذه الأسماء هو وضعها الاعتباري الذي يسوقه الكاتب في صورة تناصية تحويلية لا يمكن فصلها عن مرجعيتها الأصلية، إذ هي بالتالي تتضمن التصريح بالعلاقات الجدلية في مراحل تاريخية معينة تمتد إلى ما يقارب خمسة عشر سنة.
الإحالات:
1-جاب ليتفلت: مقتضيات النص السردي الأدبي، ترجمة رشيد بنحدو، طرائق السرد الأدبي، ص 200
2-أمبرطو إيكو، القارئ النموذجي، ترجمة أحمد بوحسين، طرائق، م س، ص 16
3-نفسه، ص163
4-سعيد بنكراد:السيميائيات السردية، منشورات الزمن، ط2 ؛ 2015 ؛ ص32
5-جواد المومني، ذوات يمتطيها الضل- نسيج المرار – محكيات ذاتية ،ط 1 مطبعة سجلماسة مكناس 2017 ص7
6- آن بانفيلد: الأسلوب السردي، نحو الخطاب المباشر والخطاب غير المباشر، طرائق ص 149
7- نفسه ص 12
8- نفسه ص 23
9- فريدة نعمان ، شعرية المكان عند عزالدين الناصرة ، علامات، العدد36 2011،ص143
10- جواد المومني،نفسه ص 21
11- نفسه ص 46
12- فريدة نعمان، مصدر سابق ص 143
13- الجيلالي الغرابي، توظيف التراث الشعبي في الرواية العربية- الثقافة الشعبية ط1 ؛ 2015 , ص71
14- أمبيرطو إيكو، م.س. ص 164
15- جواد المومني، م.س. ص 23
16- نفسه ص 27