سمير بوسلهام
يلمس المتأمل بعمق في أعمال التشكيلي إيلان (الحسين أيت الطالب ) نضالا من نوع خاص، إنه نضال بالريشة، بالألوان والخطوط التي يحكي من خلالها الفنان جراح ومعاناة الجسد، في مجتمع سمته الكبرى: النفاق.
مجتمع لا يتوانى ولو للحظة عن محاولة تطويع الجسد وإخضاعه للسلطة، هذه السلطة التي تخترق أرجاء المجتمع بكامله حتى لا تترك للجسد أي منفذ للخروج من الحِجْر، بما في ذلك الأمكنة التي تجسد هي كذلك هذه السلطة وتعبر عنها باستمرار. إنها حكاية معاناة وصراع بين الجسد الانثوي مع سلطة المجتمع القهري الذكوري.
يبرز الفنان إيلان علاقة القهر هذه في لوحاته بأسلوب تراجيدي، يكشف المستور ويزيل عنه كل ما يحجب عن المتلقي الحقيقة. حقيقة القهر والسيطرة وتحديدا حقيقة استغلال الجسد الأنثوي وتشييئه ومحاولة تخليصه من أنوتثه، جماليته، أو لنقل: احتكار أنوثة جسد الأنثى واختزالها في متعة شبقية، متعة من طرف واحد، متعة ذكورية بشكل مستور. وكأنه جسد مرغوب ومطلوب لكن فقط في الخفاء والخاص والمستور، لكنه منبوذ في المجال العام: هذا هو النفاق الذي تحرجنا به أعمال إيلان، فنقف أمامها بين انفعالين: إما أن يحرك فينا العمل الفني الحس النقدي ويذكي فينا روح التحديث والتحرر، أو يحرك فينا العصبية والنفور منه، أي نفورا من الحقيقة العارية، من الجسد العاري وتفاصيله. فيكون الفنان قد نجح في كلتا الحالتين، وربما أكثر في الحالة الثانية: كونه استفز المتلقي المتعصب بحقيقة يرفض الاعتراف بها، و أغاض حنقه على الجسد الأنثوي، هذا الحنق الذي يخفي لديه الرغبة في التملك والاستعباد، فيذكره أنه طرف في الموضوع، و شخصية من شخوص لوحاته، وإن كره ذلك.
ربما هذا ما يجعل أسلوب إيلان التشكيلي، يفصح بشكل أكبر مما هو معتاد في التشكيل المعاصر. فنجده يحكي في لوحاته بكل أريحية، يفضح ولا يستر، يفصح ولا يكتم… لأن الموضوع هنا لطالما لحقه التستر والكتمان على مستوى الواقع، فكيف يعيد إيلان تشكيله في أعماله بنفس النبرة الخافتة؟ هذا هو الخطأ الذي لن يعيد الفنان ارتكابه، ولهذا اختار أن تكون تجريدياته وانطباعاته كاشفة وواضحة، تجريديات حسية وواقعية.
لا يتجلى التحديث عند إيلان في أعماله من حيث التيمة فقط، بل أيضا على مستوى الشكل والأسلوب، بدءا بالشكل الهندسي للوحاته، التي اختار لها أن تكون مثلثة، ليكسر هذا الاختيار تقليد الإطارات رباعية الأضلاع المتوازية من مربعات ومستطيلات. إلى درجة يمكن معها القول أن المثلث أصبح رمزا دالا عند إيلان وشخصية من شخوص لوحاته، فالمثلث قد يعبر عن الهرمية والتراتبية التي تتخلل جسد المجتمع اقتصاديا وسياسيا وحتى جنسانيا، وقد يعبر عن الجسد الأنثوي نفسه أو يرمز تحديدا إلى الثدي أو الفرج بؤرة لتمركز الرغبة الجنسية، فيختزل إيلان شخصية الجسد الأنثوي في شكل مثلث كما يختزل الرجل الذكوري جسد المرأة في المتعة واللذة الجنسية.
شخوص إيلان الرئيسية هي الجسد في مقابل الصوامع. تحيل الصوامع هنا إلى المجتمع بخلفياته الباترياركية والدينية التي تهيمن على مساحة اللوحة بألوانها الفاقعة والواقعية البارزة، وبخطوطها الحادة وشكلها المصقول. لكن كشفها بهذه الطريقة الفاضحة يزيل عنها طابعها السحري ويخرجها من دائرة المقدس، ليكشف ميكانيزماتها السلطوية في عملية إخضاع الجسد وتطويعه ليصير مستورا فيظهر في اللوحة بألوان داكنة لا تسمح بظهور تفاصيله، فكثيرا ما يأتي الجسد في لوحات إيلان باللون الأسود، أسود يحيل على ما لحق الجسد من قهر ثقافي واجتماعي، وفوق اللون الأسود يخط إيلان على طول مساحة الجسد خدوشا قد تكسر رتابة السواد، إلا أنها تعبر عن الجراح و آثار التعذيب النفسي والقهر الاجتماعي الذي لطالما تحملتهما المرأة.
بالإضافة إلى الخدوش التي تملأ مساحة الجسد، نجد هذا الأخير في مجمل أعمال إيلان إما جسدا مثقلا أو محاصرا أو مقلوبا، لكن نجده دائما دون رأس.
لعله ثقل الموروث الثقافي الذكوري الذي لا يستطيع الجسد التخلص منه، لأنه نشأ في أحضانه وتربى وفق نواميسه وشرائعه، ما جعله يتواطأ معه فينصبه رأسا له. إنه تعبير عن الانفصام والانشطار بين طبيعة الجسد الأنثوية الأصيلة وبين سلطة الثقافة والمجتمع التي أعادت تشكيله ذكوريا. لهذا يتقلب الجسد في أرجاء اللوحة بحثا عن الذات، بحثا عن الهوية، لكنه يبقى بدون رأس، لأن الرأس تعبير عن الهوية المفقودة، هوية أصيلة حلت محلها هوية مفبركة ومزيفة، صنعتها سلطة المجتمع على الشاكلة التي تناسب شبقية الذكر ونفاقه، ذكر يريد الأنثى للمتعة في الخفاء لكن لا يقوى على الاعتراف بها كهوية وكذات في العلن.
إن الماثل أمام إحدى لوحات إيلان كأنما يمثل أمام نص فوكوي يشتغل بالحفريات ليكشف آليات النفاق في خطاب المجتمعات الدينية في علاقتها بالجسد، الجسد كعقدة، كخطر أو وحش يتهدد خطاب هذه المجتمعات. لكن هذه المرة كنص تشكيلي لا يخلو من فلسفة.
الفنان الحسين أيت الطالب الملقب بإيلان ولد سنة 1977 في قرية تاكنيت بقلعة مكونة، جنوب شرق مدينة ورزازات بالمغرب. تابع تعليمه بها ثم سافر إلى مراكش بعد حصوله على شهادة الباكالوريا ليتابع تكوينه الجامعي في الفلسفة. كان عصامي التكوين الصباغي، يعيش حاليا في المدينة الحمراء (مراكش)، ويشتغل بها أستاذا للفلسفة التي يستلهم منها خياله الفني ورؤيته الفنية.
Warning: Undefined variable $postData in /home/ifada/public_html/wp-content/themes/NewsPaperOne-Light/template-parts/content/content-single.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on null in /home/ifada/public_html/wp-content/themes/NewsPaperOne-Light/template-parts/content/content-single.php on line 55
Warning: Attempt to read property "ID" on null in /home/ifada/public_html/wp-content/themes/NewsPaperOne-Light/template-parts/content/content-single.php on line 55
أضف تعليقك