
أيام مبتورة من أنهرها
يوم رمضان، في إيقاع حياتي القصية عن الحياة خلال الشهر الموسوم بالفضيل، بدون نهار تقريبا، لا وجود ضمنه لجزء غير قصير مما يسمه القاموس بضياء ما بين طلوع الفجر إلى غياب الشمس.
وئيدا يكون طرف النهار الأول في رمضان، ما يعفيني من تعبير المجاملة الأجوف: نهاركَ/كِ سعيد.
أتضرع إلى النوم أن يستفحل في ضربه على أذني، فينمحي طرف النهار الأول من معيشي وتعيشي. أمعن في انتمائي غير القابل للمقايضة لحزب النومة الذين ما بدلوا تبديلا، فأرمي جوارح النهار إلى العدم. بعد آذان العصر بقليل فقط أكفر بسلطان النوم، أسحب بيعتي من عنقه وأتخلص من المنامة ببطء شديد لتسليمها إلى ما تبقى من إمساك آيل للغروب.
مثل آلة معطلة لتقطير القهوة، وعود ثقاب يتيم ومبلل، لكن صالح بمفرده لنفخ الروح في السيجارة الأولى، أكون في سباتي الصباحي. وفي رحم رحمته، يخال ظلي نفسه رقم تأجير جدير بالانضباط لتوقيت السخرة. ترتديه ملابسي ويقوده حذائي إلى الشارع المتثائب، حيث ستتوقف على مشارفه الفاقدة للقدرة على افتعال مدح فضائل الصوم، بدون أدنى إشارة منه، سيارة أجرة ظمأها الجوع.
يركب الظل السيارة التي لا صوت بداخلها يعلو على صوت “عذاب القبر”، ومنها، ليس من سائقها ذي اللسان غير الصائم، يطلب الذهاب إلى محطة القطار. وعقب صعود القطار، الذي لا يعجل في الوصول مثلما يعجل الناس الفطور، يرد على الركاب بأحسن من التخنزيرة التي حيوه بها، ويحمد الله على عدم استعمالهم كالعادة لمضادات العرق المزيفة المثيرة لأوجاع الأنف الذي تكفيه في رمضان روائح أنفاسهم السيئة. وفي الجريدة، يتبادل الظل أحاديث سوريالية مع فأرات حواسيب الزملاء.
في طريق العودة إلى خالقه الذي يكون آنذاك، حقيقة وليس مجازا، في منزلة من سلم الروح إلى خالقها مؤقتا، يمر الظل بالجوطية ليبدد فيها دريهماته مقتنيا ما لن يحتاجه أصلا وما سيفضل في مائدة الإفطار ليسمن قطط الحي اللعينة التي لا تكف عن المواء، متآمرة بذلك مع بقية الخلق والخليقة على السكينة التي يستلزمها الوفاء بقسمه القاضي بأن يسلم الخلق والخليقة من لسانه الأمار بالسوء في هذا الشهر الأليل.
ليس الظل في الواقع من يغادر السرير ويعود إليه في أنهرة رمضان المبتورة من أيامه. بل هو لحمي وشحمي المشاء إلى حيثما اتفق بفعل الضربة التي ينهال بها على وعيي “حمار الليل”. هو “بوغطاط” من يقود حبوي التائه بين حدي ميزان نهار رمضان المفتقد للبوصلة. وبما أن الدارجة الفجة من مفسدات الصوم في بعض الروايات المتأخرة، سأقول مكرها “إنني أكون في حالة سرنمة”.
بعد “الزواكة” يعود الوقت ملكا لي. أستهلكه في تجرع فناجين القهوة ومراكمة أعقاب السجائر. أقضي ساعة في المقهى تقريبا مع الأصدقاء للنميمة والتلصص على آخر أخبار البلاد والعباد وجوقة الكتبة وملطخي القماش ولصوص النصوص ونصوص اللصوص. نلقي نظرة عابرة على عناوين صحف الغد ليعلق الواحد منا، بإسهال العارف الذي لا يأتي الباطل تحليلاته، على أخبار السند والهند، وبورصات المال والقيم، وتموجات السياسة والسياسيين والناس أجمعين…
عقب غروب “حرب الزيف” إذن تعود للكلمات معانيها، وللألوان نصاعتها، وللصور ملامحها… أنزوي بين صفحات كتب أجلت قراءتها طوال أحد عشر شهرا، منتقلا بين فصل من رواية إلى مبحث في بحث، من قصيدة في ديوان إلى فصل من مؤلف تاريخي، من موقف في سيرة ذاتية أو غيرية إلى مقدمة كاتالوغ معرض تشكيلي… أهجر الورق حين تتعب حاسة السمع من خشخشاته، لأداعب فأرة الحاسوب. أفسح للعين حق حاستها الأصل، أي البصر وليس غض الطرف، فأعيد مشاهدة روائع من المكتبة السينمائية العالمية.
ليالي رمضان تمنعني من حضور الأنشطة الثقافية أو المشاركة في فعالياتها إلا لماما، لأن الشهر هذا يحجب حواشي الأنشطة تلك من جدول أعمالها… يحيلها إلى طقس شبيه بصلاة الجنازة وما يليها من كسكس.
بعد طلقات المدفع تزدحم المشاريع الأدبية في المخيال، أسجل عناوين بعضها في أوراق متناثرة أعلم علم اليقين أن مدفع الفجر سيمنع عنها التحقق، وأؤجل بعضها الآخر إلى رمضان المقبل… مثلما أؤجل، منذ الأزل، اجتياز اختبار الحصول على رخصة السياقة إلى رمضان آخر.
وكل رمضان، أعقد العزم على تخصيص الليالي كلها لكتابة رواية أكون شخصها الرئيس وراويها المتحكم في أدق مساراتها. أسطورة كائن يمتلك ممحاة لبتر الساعات من الزمن، كائن منفلت من وزر توقيت التراويح، يستهزئ بمن يعقدون النية على الصوم، سبيله إلى ذلك محو الساعات الفاصلة بين طلوع الفجر وغروب الشمس خلال الشهر الذي “تسلسل فيه الشياطين”. ومع ذلك، فقد هشمت الشياطين في رمضان هذا سلاسلها، لترفع الغشاوة عن العين اليمنى العليلة التي كان وهم ما يتراءى لجارتها اليسرى يحجب عنها سعة العتمة.
*سعيد عاهد (رمضان 2015)