هيئة التحرير افادة الجمعة 20 يوليو - 12:01

أيامي العصيبة ( 2 )

لم أكن أعرف السباحة. ولحسن الحظ، كانت هناك على ضفة نهر السون مستحَمّات تحيط بها طافيات من فلين، وبالقرب منها سبّاحون محترفون. وقد سارعوا إلى انتشالي، ونزعوا عني ثيابي المبللة، وأعادوا الدفء إلى جسدي. 
في تلك اللحظات الحرجة، رأيتُ شخصا أعرفه حق المعرفة – إذ سبق لي أن شربت برفقته بعض الكؤوس- رأيتُه يتوجه نحو ملابسي المطروحة أرضا، ويتناول معطفي ويفتش جيوبي ويأخذ منها نقودي القليلة ثم يمضي لحال سبيله. لم أقل شيئا وأنا في ذلك الموقف المهين. ومن ذا الذي سيصدق فتى مثلي، أنقِذَ للتو من موت محقق، بعد إقدامه على عمل أخرق؟
لقد بدا لي يومئذ أنه من باب المجازفة أن أشير إلى ذلك الشخص” المحترم” بأصابع الاتهام وأن أصرخ قائلا:
– أمسكوا السارق! أمسكوا السارق!
والعجيب أنني التقيته فيما بعد، وكان أن مضينا معا إلى إحدى الحانات، حيث دعاني للشرب على حسابه، أو ربما على حسابي، بالنقود التي سرقها مني!
******
لنعد الآن إلى صديقي ليون شارلي.
لقد كان شخصا غريب الأطوار حقا. كان سليل عائلة ميسورة، فوالده، المهندس اللامع، كان من كبار تجار الحرير في مدينة ليون. ولأمر ما، هاجرَ هذا الأب إلى السالفادور، حيث أصبح من الشخصيات المرموقة هناك. بل إنه هو الذي أشرف، فيما أتذكر، على وضع قانون استغلال المناجم في ذلك البلد. فلما عاد إلى مدينة ليون، صار قنصلا شرفيا للسالفادور، اعترافا من أصحاب القرار هناك بالخدمات الكبرى التي قدمها لبلدهم. وبعد وفاة الأب، حل محله الابن – ليون شارلي- فصار قنصلا شرفيا للبلد المذكور. لكنه كان يكره العمل كرها شديدا، ويعتبره شيئا لاأخلاقيا!
كان يرتدي ملابس غاية في الغرابة ويمضي للتجول في الشوارع، مرددا بين حين وآخر، وبأعلى صوته، بعض الكلمات الغامضة. كانت كلمته الأثيرة في هذا السياق هي ” بورنيو”. بيد أني لم أسأله قط عن معناها. كان ينطق بتلك الكلمة بصوت جهير، وكان الناس يلتفتون إليه مستغربين، الأمر الذي يجعلني أشعر بالإحراج، وإن كان المشهد لا يخلو من طرافة.
وبطبيعة الحال، فإن ليون شارلي بدّدَ الثروة التي ورثها عن والده في زمن قصير. فالثروات لا تصلح في اعتقاده إلا للتبديد. وأذكر أنه كان يقول لي باستمرار:” ضعْ نفسَك دائما في المكان الذي تشرئبُّ إليك فيه الأعناق.” وأعترف أني حاولتُ العمل بنصيحته، ولم يكن ذلك بالأمر الهين، لكني وجدت فيه الكثير من التسلية.
وقد تزوج شارلي ثلاث مرات. كانت زوجته الأولى ابنة رجل ميسور، يملك حانة معروفة في مدينة ليون. وبعد وفاتها، اقترنَ صاحبُنا بأمينة الصندوق، التي كانت تعمل في تلك الحانة. وأي غرابة في الآمر، يا تُرى؟ ففي أحيان كثيرة، يكتفي الواحد منا بأول امرأة يجدها في متناوله! ولما ماتت أمينة الصندوق، اضطر شارلي إلى الزواج بالمرأة التي كانت تغسل الصحون، في الحانة نفسها!
ولما لم يعد يملك من متاع الدنيا شيئا، انتقل للسكن في غرفة بائسة، على سطح إحدى البنايات. كان هناك مبغى في الطابق الأول من تلك البناية. وياللمشهد الغريب، حين كان صاحبنا يرفع علم السالفادور فوق سطح غرفته البائسة، كلما حلت مناسبة من المناسبات الرسمية ! غير أنه عقدَ، في الأخير، اتفاقا مع صاحبة المبغى، فأصبحتْ هي التي تتولى إثبات العلم المذكور، في نافذتها المغلقة، كلما دعت الضرورة إلى ذلك. 
كان اسم ليون شارلي مسجلا في لوائح السلك الدبلوماسي، فكان من الطبيعي أن يُدعى لحضور هذه المناسبة الرسمية أو تلك. وكان عندئذ يرتدي بدلته الأنيقة، المخصصة لذلك الغرض، ثم يمضي لتلبية الدعوة، وفي جيوبه بعض العلب الفارغة. فقد كانت تلك فرصة سانحة أمامه كي يملأ العلب بما لذ وطاب، ويعود بها إلى البيت، حيث تنتظره زوجته الثالثة وابنه، ببالغ اللهفة!
كان أعضاء السلك الدبلوماسي بمدينة ليون يستغربون ويعبرون عن دهشتهم مما يرون. وفي الأخير، قررت دولة السالفادور إلغاء ذلك المنصب، وهكذا توقف ” القنصل” ليون شارلي عن ممارسة ” مهامه الدبلوسية”.
إثر ذلك باع بدلته الأنيقة ثم مضى إلى مقر الحزب الشيوعي، وانخرط في صفوفه.
**********
كان ليون شارلي صديقا لا يجود الزمان بمثله. كانت علاقتنا رفيعة حقا، مفعمة بالحيوية ومغسولة بالدموع. كان يقول لي:” إذا كنتَ حزينا فلا تتردد في البكاء، لأنه لا يجدر بالمرء أن يترك الكآبة تعتمل في دواخله.”
كان مقتنعا بأن ذرف الدموع ليس بالأمر المخجل، وبأن على الإنسان أن يبكي ما طاب له البكاء. لم يكن ذلك مجرد ” قاعدة صحية” بالنسبة إليه، بل كان تعبيرا عن إيمانه العميق بشموخ الكائن البشري. 
كنت أرافقه، بين حين وآخر، إلى بيته، حيث كنا نجْهز على بعض القناني، ثم نتحدث طويلا ونحكي عن بؤس العالَم الذي نعيش فيه. وكنا نبكي معاً. كانت دموعنا تسيل بغزارة. وعندئذ، كان ينمو في دواخلنا إحساس رائع بأننا سنصبح أفضل كثيرا مما نَحْنُ عليه.
كان يقول لي:
– ألا ترى معي أن الله الذي خلقنا سوف يَكتب لنا الخلود؟ ألستَ متفقا معي بأنني منذور للخلود؟
وقد كنت متفقا معه تمام الاتفاق.

التعاليق

المزيد من ثقافة وفنون

Error Category (C-P2) - Slug (video-tubes)


تابع إفادة على:

تحميل التطبيق