الخميس 26 أبريل 22:04
7038
اصطياد القمر بشباك الحدّ الأدنى
أراني وحيدا عاريا ، منكسر الروح، مهيض الجناح، مرصّعا بالخيبات ، فاقدا للزهو، مثلما جئت إلى هذه الدنيا ، و فوقي مباشرة قمر شاحب منحرف إلى اليسار شيئا ما، يعكس أضواءه الواهنة الخافتة على بدني النحيف الضامر، أبصرني بعين بصيرتي الجوانيّة غاطسا نائيّا في حوض سباحة ذي أمواه متكدّرة الصفاء تنذر بطقس سيء المزاج وشيك . أشاهدني عبر مرايا دخيلتي أسبح بدعة و طمأنينة إلى أن أنتبه إلى وجود سرب من سمكات القرش صغيرة الهياكل فتيّة الحراشف تعوم إلى جواري وتدنو مني وفق أنظمة مستقيمة أو دائريّة، تربيعيّة أو أسطوانيّة ، مخروطيّة أو مستطيلة ، مخصوصة في الحركة ومعقّدة في توصيف حبكاتها ومغازيها، إذ لها القدرة على الخروج من قيد ضابط هندسيّ إلى حرية ضابط آخر، وعلى مغادرة أحيزة معادلة رياضيّة للاستقرار في معادلة بديلة .
يصيبني هلع بالغ وأخشى أن تهاجمني على حين غرّة و تلتهم أطرافي المذعورة ، بيد أني لما طفقت أحاكيها في مساراتها المتشعبة المتداخلة المنسجمة مثل مقاطع موسيقيّة هادئة تخرج من أصابع جهاز بيانو، حافظت على مسافة آمنة مني حتّى وإن كان حجمها قد ازداد وصارت في رفّة هدب أسماك قرش راشدة شرسة ضخمة الذيول قاتلة الفكوك. أخرج من الحوض الذي احتجز القمر الشاحب بين كماشة حدوده الشحيحة الوجيزة، حاسبا أني قد تملّصت بجلدي من موت محقق ، ثم تحين مني نظرة خاطفة إلى الوراء لأرمق بين تخوم الظلال و خيوط النور المتلاشي المتذرر إلى شعيعات دقيقة المسبح غارقا برمّته في الدماء و أطرافي المبتورة موزعة على كافة أرجائه.
أحسب أنّ هذي المنامة المفزعة للحواس اللاواعيّة بشتّى مؤثثاتها الرمزيّة والوجوديّة والجيومتريّة والتخييليّة و النفسيّة والأليغوريّة، التي لازمت سهدي خلال السنوات الأخيرة استعارة مناسبة وأمثولة موائمة لجوهر ومآلات قصتنا المغربيّة القصيرة وللكدح السرديّ المضني الذي تبذله روح القاص الوطنيّ بغاية تجويد حرفته وتمنيع عقيدته وتطوير صنائعه.
قصتنا البارعة التي تصطاد القمر الشاحب للسرد بشبكة الحدّ الأدنى وقانون الندرة وتحوّله إلى مرمر صقيل. وقاصنا المناضل الأبيّ الذي يكابد إرغامات المطلق القصصيّ وقوانين النوع القسريّة ليشيّد في غفلة عن جسده مسبح الخيال المخضّب بدماء الخلق ، ويظل على الرغم من جميع المثبطات المركز الساكن في عين العاصفة الهائجة العاتية القادمة لتتفيه وتبخيس قدر ووظيفة الأدب في عصرنا المعولم .
قصتنا الخلاسيّة الجائلة بين الأساليب و المرجعيات واللّغات، التي تجدد في كلّ مرة طرقها الجمالية للاتصال بالواقع بمختلف مستوياته الظاهرة أو الكتيمة أو اللامرئيّة . وقاصنا المغامر السائر نحو المجهول بدون دليل أو وصايا أو إقامة في الصدى، الذي يخاطر بنفسه فوق معابر الحكاية الممدودة على الفراغ السحيق.
إنّ المكسب الأهم والثمين لطفلة الأدب المشاغبة في الملاعب الترابيّة للسرد المغربيّ خلال العقود الأخيرة هو نأيها، مبنى و معنى، سواء في محتوياتها المستخلصة أم أشكالها البنائيّة، عن الحس المشترك كأفق جمعيّ لتلقي الأثر القصصيّ. ذاك الذي تنتجه الوثنية السعيدة لمحافل التلقي وما يرتبط بها من نزوعات استهلاكيّة أو تسويقيّة. فهي لم تكن تابعة للحكم الذوقيّ الذي يستجيب لاشتراطات “الاستطيقا الشعبويّة “، بل ازورت عنه وصعّرت له وجوهها وأقنعتها وقاومت بجلد المكابدات الحقيقية أيّة محاولة لابتلاع كينونتها اللصيقة بأدب الأقليّات و”الجماعات المغمورة ” . كينونتها التي تنتمي إلى صنف ما لا ينتهي لا في الداخل ولا في الخارج .
كلّ عام وكلّ يوم وطني مجيد كما أقرته “جمعية النجم الأحمر” بمشرع بلقصيري، وقصتنا المغربيّة القصيرة أوبرا متعددة الأصوات والأطياف تحدث في بضعة دقائق. الضمير المعذّب ومسيح الأجناس الأدبيّة . رثاء الكائن المخدوع المتسكّع عبر الأكوان في ثانية واحدة كأنّها الأبديّة. هسيس مقص أظافر الكلمات وهو يحفر في فلين الحياة الرسميّة والحيوات الموازيّة . حصة الزاهد المستغني و الصمت البليغ للكتابة هذه الحرب الطويلة الموجعة المستنزفة لكتائب السويداء التي لايفوز فيها أي أحد .
كلّ عام وكلّ احتفاء بفن طريق العشاق الذين لا يشعرون بالاستيحاش على الرغم من قلّة السّالكين، وقصتنا المغربيّة القصيرة غيمة في الجيب الخلفيّ للعالم وقارة يانعة شاسعة وسط صدورنا.
أنيس الرافعي
البيضاء في 25 أبريل 2018
أضف تعليقك